الذاكرة السورية هي ملك لكل السوريين. يستند عملنا إلى المعايير العلمية، وينبغي أن تكون المعلومات دقيقة وموثوقة، وألّا تكتسي أيّ صبغة أيديولوجية. أرسلوا إلينا تعليقاتكم لإثراء المحتوى.

شهادة المعتقل السابق عباس محمود عباس

شهادة المعتقل السابق عباس محمود عباس

5-شباط-2004

الاسم: عباس محمود عباس

مواليد: حماة – دير ماما 1952

متزوج، اسم الزوجة: فائزة ونوس

لديهما ابنة: ديمة عباس مواليد 1984 – سنة أولى تجارة واقتصاد جامعة دمشق

توارى عام 1984 بعد ملاحقته من قبل المخابرات العسكرية فرع فلسطين

اعتقل في نيسان 1987

كان موظفاً حتى آب 1984.

أفرج عنه قبل انتهاء تنفيذ حكمه بخمسة أشهر وذلك في 18/11/2001 كان قد حكم عليه بالأشغال الشاقة مدة خمسة عشر عاماً مع حجره وتجريده مدنياً، وصدر قرار المحكمة بتاريخ 27/6/1995 بعد توقيفه عرفياً منذ 14/4/1987.

 

تقول الحكاية:

“إن أحد الخانات وقع في غابر الأزمان أسيراً بيد خانٍ آخر. فقال هذا الأخير للخان الأسير: إذا أردت، فستحيا لديَّ عبداً رقيقاً، وإلاّ فسأجيبك إلى أحبّ الأماني إلى قلبك، ثم أقتلك بعدها.

فكّر الأسير الخان مليّاً ثم قال: لا أريد أن أحيا عبداً، والأفضل أن تقتلني، على أن تدعو لي قبل مقتلي أوّل راعٍ تلقاه من وطني.

ما حاجتك إليه؟ سأل الخان.

فأجاب الأسير: أريد أن أستمع منه قبل موتي كيف يغنِّي!!”.

قبل أن تمضي بي الطريق، وشت لي دون مواربة:

“إنني شائكة ووعرة ومتعرِّجة ما أمكن، إنني موقوتة البغتات ككلِّ الدروب المناوئة للعسف!!”

كذا شرع العمل السياسي المعارض، أشبه بالسير في حقل ألغام حين تكون بعض حقوقك الدستورية معلّقة إلى أجل يحدِّده أولياء حياتك.

إن “حرية التعبير” و”الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية” وسواهما، كلها حقوق نصَّ عليها الدستور السوري الدائم لعام 1973، وقد عُهد للمشّرع بسنِّ القوانين والتشريعات التي تكفل ممارسة هذه الحقوق. أما واقع الحال فإن مفهوم “الحرية حق مقدّس” كما صيغَ في متن الدستور ظلَّ خارج القاموس السياسي السائد ولم يرَ الحياة. ومع غياب قانون تشكيل الأحزاب وتنظيم الحياة السياسية، والحضور المطلق لقوانين الطوارئ والأحكام العرفية منذ عام 1963، كان يسيراً جداً أن يعتبر النظامُ قوى المعارضة بأسرها خارج القانون، أو خارجة على قوانين الاستثناء سارية المفعول. وبالتالي فقد تمَّ إطلاق العنان لقانون القوة، خصماً وحكماً في آن، واعتبرت كل هذه اِلأحزاب محظورة.

في ظل ظروف كهذه ولدت رابطة العمل الشيوعي (حزب العمل الشيوعي لاحقاً)، بصفتها تنظيماً سياسياً معارضاً، واختارت العمل السري مكرهة، شأنها شأن جميع التنظيمات السياسية المعارضة، وكانت الجريدة السياسية وسيلتها الوحيدة في التعبيرعن مصالح الطبقات الشعبية وتطلعاتها نحو مجتمع يسود فيه القانون والعدالة. وقد رافقتها حملات القمع والملاحقة والاعتقال على نحو مستمر منذ نشوئها كرابطة ومن ثم كحزب، إلى أن شهدت أعوام التسعينات من القرن الماضي انتصار النظام بشكل ساحق على كل الأصوات الوطنية التي لم تندرج تحت مظلته.

في أوائل عام 1978 انتميت إلى رابطة العمل الشيوعي وكنت آنئذ موظفاً وطالباً جامعياً. وقد عملت في عدد من الهيئات الحزبية، وحين اعتقلت كنت عضواً في اللجنة المركزية لحزب العمل الشيوعي.

في عام 1984 لوحقتُ من قبل الجهات الأمنية ولم تكن ابنتي قد بلغت الأشهر الخمسة من عمرها. وبقيت متوارياً لثلاث سنوات تقريباً، كنت متفرِّغاً خلالها للعمل السياسي إلى أن جرى اعتقالي في مدينة حمص بتاريخ 14/4/1987 من قبل فرع فلسطين.

وهناك تعرّضت لشتى صنوف التعذيب النفسي والجسدي، واستمرّت هذه الحال نحو أحد عشر شهراً في ظروف تحقيق بالغة السوء.

* * *

في 2/3/1988 رُحلّت إلى سجن تدمر مع خمسة عشر رفيقاً لا نحمل سوى أقلّ القليل مما بخس وزنه وثمنه، بما في ذلك أجسادنا التي استُبيحت هناك أيّما استباحة، ضرباً وتنكيلاً، بينما كانت في أمسّ الحاجة إلى الترميم واستعادة بعض قواها.

كنا نعتقد أن اعتقالنا، رغم لا مشروعيته، هو إقصاء عن العمل السياسي أي إخراج من ساحة النشاط اليومي، لنكتشف أن معتقل تدمر يعني الإقصاء عن كل ما يصلك بالحياة وتقطيع أواصرك معها. يعني تفكيك الذات الإنسانية عبر العزلة المطلقة والعطالة وتعطيل الحواس. يعني الترقّب المريع، والهلع من المجهول، والعيش في حمأة التوتر اليومي. يعني الشحّ في كل شيء ما عدا التعذيب متعدد الضروب. يعني، باختصار شديد، جهنم من صنع البشر!!!

ما من شك في أن الشروط التي تتوافر عليها السجون العسكرية الثلاثة: (تدمر، المزة، صيدنايا) متفاوتة بين سجن وآخر، بيد أنها جميعاً لا تتناسب والمعايير الدولية؛ ولكن فيما يتعلق بسجن تدمر فإنه يمتاز بافتقاره لأدنى الشروط الإنسانية، حيث أن الطقوس الفظيعة التي تمارس فيه كفيلة بإماتة القطط.

ففي المرحلة الأولى من وجودنا فيه، كنا كمن يقف في حلق هاوية، بلا قرار، عرضة للضرب والتعذيب والإهانات، يكفي أن يُفتح باب المهجع حتى تنهال العصي واللكمات والركلات والقضبان من كل حدب وصوب. ومن يشهد إدخال الطعام أو لحظة الخروج إلى “التنفس” في الباحة يعتقد أنه في ساح الوغى. وما من شك في أن ظروف المعتقلين الآخرين ممن ينتمون إلى حركة الإخوان المسلمين وحزب البعث الموالي للعراق كانت أكثر سوءاً بما لا يقاس. فالاختلاف في التعامل يبرز ليس فقط بين سجن وآخر، وإنما أيضاً بين جماعة وأخرى داخل السجن الواحد، وفقاً للتقديرات السياسية والأمنية والتوصيات العقابية الخاصة بكل مجموعة على حده. كما أن هنالك هامشاً كبيراً يمكن لمدير هذا السجن أو ذاك التحرّك داخله بحرية، ناهيكم عن أن السجّان بحدِّ ذاته – وهو أداة التنفيذ المباشرة – قادر على التحكّم بهذا الهامش دون حسيب أو رقيب، فهو المعني أصلاً بابتداع وسائله الخاصة في التعذيب وتطبيقها على المعتقلين جسدياً ونفسياً. وليس مهماً بالنسبة له أن يرتكب السجين خطأ ما، لأن النتيجة تكاد تكون واحدة في ظل غياب حقوق السجين، وجهله لواجباته التي ينبغي أن يكتشفها بنفسه، ولكن ليس قبل أن يدفع ثمنها غالياً من دمه وروحه.

إن عددنا القليل جنَّبنا الآثار المرعبة للازدحام الذي كان يعانيه باقي المعتقلين: التوتّر والضغط النفسي وعدوى الأمراض وكميات الطعام التي توزّع على المهاجع دون الأخذ في الاعتبار عدد نزلائه

بعد معاناة قاسية دامت أشهراً لم يكن من الصعب خلالها التوصل إلى حقيقة مفادها أن ليس ثمة قرار سياسي بتصفيتنا جسدياً، ولكن كل ما عدا ذلك كان متاحاً ضدنا إلى ما لا نهاية. وكانت وسائلنا الدفاعية شبه الوحيدة التململ الجزئي والصبر ونزع الذرائع. ومع استمرار دورة الآلام اليومية لم يبق أمامنا سوى خيار واحد وحيد: الرفض الواضح لهذه السياسة العقابية والاحتجاج على كل تلك الممارسات المجنونة. وفعلاً خرجنا تدريجياً من وطأة القهر والخوف، وارتفعت أصواتنا، وبدأت مطالبنا تتزايد، وكذلك حاجاتنا، مدركين في الوقت نفسه أن ما نطالب به لا يعدو كونه أدنى متطلبات وحقوق السجين السياسي، من قبيل: وضع حد للضرب العشوائي، رفع الرأس وفتح العينين لدى خروجنا إلى باحة التنفس، تحسين الطعام، إيقاف الشتائم والإهانات، تلقّي المعالجة الطبية، الحصول على كمية من المنظفات كافية (الصابون العسكري طبعاً)، توفير الصحافة والكتب من مكتبة السجن – وهذا المطلب الأخير لم يتحقق إلا بعد خوضنا الإضراب الأول (ليوم واحد) في 6/6/1989، ولم ينتظم وصول الصحف المحليّة والكتب إلاّ بعيد إضرابنا الثاني عن الطعام (12 يوماً) وذلك في 12/10/1989، حيث تمّ نقلنا إلى مكان آخر كجزء من مطالبنا الجديدة. مع ذلك كله كانت مطالبنا، على الرغم من تحققها النسبي، تواجه بالتطنيش والتسويف والتقطّع. ولعلّ الهدنة الوحيدة التي عشناها هي تلك الفترة التي سبقت إضرابنا الثالث (17 يوماً) في 16/2/1991، الذي كنا نسعى من ورائه إلى تكريس ما حققناه خلال المرحلة الفائتة وانتزاع حقوق ومطالب جديدة. وفي هذا الإضراب كنا قد ازددنا ثلاثة، وصار عددنا تسعة عشر رفيقاً، وعلى الرغم من أن أوضاعنا باتت أقل سوءاً إلاّ أننا بقينا معزولين كلياً عن العالم الخارجي، محرومين من الزيارات لمدة خمس سنوات ومن الأوراق والأقلام والراديو والثياب وعدة النوم الكافية

* * *

في تدمر كان ثمة سؤال مصيري انبرى أمامنا من تلقائه: كيف سنحافظ على قوانا الذهنية والنفسية والجسدية بأقل الخسائر؟

حاولنا منذ البداية الاحتيال على الشرطين، الخارجي والداخلي، من خلال ابتداع وسائل مناوئة للوقت والأسر: كنا نتحاور، نتبادل الخبرات، نخلق وسائل تسلية من شأنها إزاحة كابوس المشاهد اليومية المريعة عن نفوسنا، كنا جميعاً نتعلّم من ونعلّم بعضنا بعضاً: قمنا بدورات تعليمية شفهية في الاقتصاد واللغات والعروض وما إلى ذلك، نحفظ الشعر كجزء من تمرين الذاكرة، ونتبارى شعرياً، ونحكي القصص والروايات والسيِّر الشخصية. اغتنت تعارفاتنا، وصرنا أكثر إحاطة وتفهّماً، واتضحت سماتنا بكل ما فيها من سجايا حسنة أو غير مستحبة، ومن تناقضات .. وأصبح الكل مرئياً في مرايا الكل. باختصار كوّنا بدائل حقيقية ولو متواضعة، وكنا نسعى إلى إدخال الفرح من أي كوةٍ متاحة. نحتفل بأعياد ميلاد أولادنا ومناسبات زواجنا، ولدى رؤية حمامة تحطُّ مصادفة فوق غصن شجرة السرو البعيدة، أو حين عصافير الدوري تقيم أعراسها الموسمية. في المعتقل تعابثك الذكريات فقط لكي تؤكد لك أن وجدانك ما يزال على قيد الحياة، وأن قدرتك على تحديد جهات أربع وسط هذه الدائرة الصوانيّة ما تزال حاضرة.

في بؤر عسف كهذه يضربك الجلاّد وهو يقهقه، ويتلو القاضي حكمه عليك وهو أشبه بمومياء ضاحكة، ويجلدك السَّجان فارضاً عليك أن تعدَّ العصي، حتى إذا سها عقلك تحت وطأة الألم، يعيدك إلى البداية، مستنسراً إلى أقصى الجبروت والانفلات من عناصره البشرية. في لحظات كهذه كنت أتذكّر نُعَرَةَ الخيل، تلك الذبابة الزرقاء الكبيرة التي تعذّب ضحيتها. تناور، تئز، تخاتل، إلى أن تنسلَّ إلى أنف الحصان. يتململ، يراوح، يدور في مكانه، يضرب برأسه صعوداً وهبوطاً، ينخر. تخرج. تعاوده، تداور، تنقض، تلدغ، تفرّ، تلتصق تحت الذيل. يركل الأرض بقوائمه، يتحرك بعشوائية المهتاج، يفتل عنقه، يضرب بذيله، يحمحم ألماً وغيظاً، يحتكّ بجذع شجرة، يسقط يتقلّب، تفرّ، تدوّم، تئز تنتصر. وما إن يشرع بالوقوف ثانية على قدميه، حتى تستنسر من جديد: البغاث البشري زرقته سوداء قاتمة!!!

هذا العالمُ الأسري اللامتوازن، اللاعقلاني يريدك ألاّ تكفَّ عن عدِّ الخسائر، وألاَّ يخرجَ عقلك أو ذاكرتك من حمأة هذه المظلمة، الأمر الذي يفرض عليك تحدّياً ثنائياً، أوَّلهما إزاء الظرف المحيط بك وثانيهما إزاء كينونتك الداخلية. تنشأ لديك معايير خاصة لحبّ الحياة، تفترض بك خلق توازن يليق بذاتك الإنسانية، ونسج صراط لحمتهُ الفعل وسداته الإرادة الواعية.

إنها لحاجة ماسة أن يصير أحدُنا العقل البلسمي للآخر وصمّام أمانه على الرغم من جسامة الضريبة المترتبّة على مهمة كهذه.

أحياناً تكفي تمريرة يد على رأسك كي تنسيك الدم النازف من هامتك، تكفي ابتسامة خافقة، أو دمعة وارفة الرحمة كي تحيل اليأس بأساً، قل تكفي طرفة على سبيل التأسِّي كي تخلق مهزلة من كل هذه الدراما الجهنمية!! تلك هي الضمادات الإنسانية التي كانت ناجعة لجراحاتنا. وما دامت تندرج في إطار السلوك الجمعي فإن ضمانتها فيها، وكذلك عناصر استمرارها، ذلك أن القوى الذاتية لكل فرد تكون، والحالة هذه، محصلة لطاقات المجموعة البشرية التي تحتويك بين ظهرانيها

بدءاً من محطة تدمر وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام خصمٍ وصديق في آن: الوقت. كنت مدركاً أنه في مكان كهذا، يمكن للوقت أن ينطوي على نقيضي الخصومة والصداقة، ولذلك فقد خضت الرهان معه، وربما جميعنا خاض الرهان نفسه، كل بطريقته الخاصة: من سيمتطي صهوة الآخر؟ كنت على يقين من أنه مزوّد بما تقتضيه عدّة الفارس أما أنا فكنت موثقاً بكل دواعي المطيّة. هذا الرهان يتطلّب من السجين أن يشغل نفسه ما أمكن، أن يتخلّى عن بعض العادات الماقبل أسرية ويجترح لنفسه أخرى بديلة. أن يسأل نفسه كل ليلة: ما الذي فعلتهُ سحابةَ هذا النهار؟ أن يتأكد من أن عوامل تكيّفه مع الأسر فعّالة. فالتكيّف سيف ذو حدين، أحدهما ضدّك والآخر لك. أحدهما يودي بك إلى مهاوي كهفك الجوّاني فتتآكل ذاتياً وببطء، فيما الآخر يشدّ أزرك، ويعلو بك فوق الأسر، ويمنحك القدرة على إيفاء ذاتك حقّها، وعلى إنصاف الآخر، الذي يشاركك المصير نفسه، ويجعلك أكثر اتساعاً للعطاء والتواصل والصدر، أي يقرّبك من كينونتك أكثر.

* * *

قد يسأل سائل: هل أضافت لك شيئاً هذه التجربة، هل أغنتك، هل أفقدتك شيئاً، وهل تركت آثارها عليك؟!

بين معتقل تدمر وسجن صيدنايا بضع مئات من الكيلومترات، وحلمٌ أو بعض حرية مبتغاة. البون بينهما خرافي في المحتوى. وصفرٌ عن متناول الحرية الحقيقية، وكلاهما استمرار للتجربة.

حين قالوا لنا: “ضبّوا أغراضكم”، تقمّصتنا ملامح الأطفال صبيحة “العيدية”! وعاودتنا قسمات الأمل بصورة مغايرة، كذا الأحلام ومشاريع الفرح. لم ننم طوال تلك الليلة التي سبقت ترحيلنا. إذن كان الخامس من أيار 1992 معلماً لا يُضاهى. خلع المكان عنه حياديته فتوادعنا مذ أصبح في ذمة الماضي. وهناك في صيدنايا السجن بدأنا نشهد آثار الزمن والشوق على وجوه رفاقنا، ثم أهلينا لاحقاً، ونشهد طلوع الشمس وغروبها، ومحكاماتنا في محكمة أمن الدولة العليا التي أحِلنا إليها في 7/5/1992، أي بعد وصولنا إلى سجن صيدنايا بيومين، واستمرت جلسات المحكمة حتى 27/6/1995 يوم صدور الحكم بحق مجموعتنا.

في سجن صيدنايا تعرّفنا الأوراق والأقلام والأصوات والوجوه والزيارات والراديو والثياب، وكل هذه الأشياء كانت مستحيلة في تدمر وتعتبر “ترفاً”!!

أبدأ من السؤال الفرعي الأخير لأقول: ما من شك في أن التجربة قد خلّفت آثاراً متنوعة قد يحتاج بعضها إلى وقت طويل كي يتم تجاوزها. ولكن ما مقدار هذه الآثار وكيف ستتمظهر؟، فهذا سؤال في عهدة الآخرين ممن يحيطون بي، وكذلك في قدرتي على غربلة ذاتي بصورة واعية وقصدية، بل تنخيلها حين ينبغي.

لا أدري بالضبط إلى أي حدٍ أصبحت متفارقاً مع أناي السابقة، لكنني أقدّر أنني تجاوزتُني في مواضع ومواقف وآراء عديدة. وأفترض أن هويتي ذات الأثافي الثلاث – الماضي والحاضر والغد – قد اتسعت إنسانياً، واحتدمت ربما، بصراعات ذاتية المنشأ أكثر بكثير من السابق. ولعلّ الآخر، بوصفه المرآة الأنجع، يمكنه أن يعكس ما تغيّر لدي، تعديلاً أو إلغاءً أو تطويراً بصورة أقلّ خداعاً، وذلك أن مرآة الذات قد تشتمل على غبشٍ مردّه نزعة التصالح مع الذات أو التستّر الضمني، وأحياناً على النقيض من ذلك: جلد الذات المبالغ فيه!! أستطيع الزعم بأنني بتُّ أرى الألوان بكل اتساعها الطيفي، محترماً تدرجّها القاضي بالتباين لا الإلغاء. وربما استطعت أن أنزع عني الميل إلى التفتيش عن إيمان تحصيني واهم، وترسخَّت قناعتي في أن تخليد المعتقدات أو محاولة إكسابها طابعاً مناعياً أمر مردّه التهيّب النفسي والخوف الفطري من كل ما هو جديد على المرء، ولذلك فغالباً ما نمارس تصفيات حقيقية لما يخالف قناعاتنا.

إن ضريبة من “كعب الدست” طولها خمسة عشر عاماً من السجن وثلاثة أعوام ملاحقة لا يمكن إلاّ أن تكتنف، شأنها شأن أي تجربة بشرية، لحظات ضعف وقوة، خسائر عامة وفردية، بقعاً مضيئة وأخرى، معتمة. والأمر الأكيد من بين هذه القضايا كلها، أنني أصبحت أكثر تشبثاً بأهداب الحرية التي تستحق أن يبذل الكثير من أجلها. فلو أخذنا بعين الاعتبار الفروقات في الخصائص الفردية بين الناس من حيث التجربة والوعي وتفرعاتهما، لحريٌّ بنا أن نضيف أيضاً عوامل الإضعاف المباشرة وغير المباشرة، وأن نرى إلى عناصر القوة أيضاً.

أولاً: ماذا يعني أن يُحكم على صديق سياسي لحزب معارض بـ 15 سنة أو بعشر سنين أو حتى بسنة واحدة؟ إنها الروح العقابية الردعية التي أرادت أن تجعل منه عبرة لشعبٍ بأكمله، وفزّاعة تقطع دابر القول ناهيكم عن الفعل السياسي. وقد نجحت هذه الروحية في ترويع الناس عموماً وتفريغ النخبة الثقافية والفكرية السياسية من أضعف إيمانها. وإلاّ ما معنى أن تزجَّ قوى المعارضة الوطنية في السجون وتجرجَر إلى المحاكم بالجملة دون أن نسمع صوتاً على سبيل المؤازرة أو الإنصاف من قبل مواطنينا من الساسة والمثقفين؟! أوليست فداحة أن يختزلَ العدد الهائل للمحامين السوريين إلى مجرّد كوكبة صغيرة من أكباش الفداء الذين تطوعوا للدفاع عن المئات من المعتقلين السياسيين، على الرغم من إدراكهم أن هذه المحاكمات سياسية وأمنية أصلاً؟!!! ما معنى أن يكون هؤلاء الذين قضوا ربع أعمارهم أو خمسها أو سدسها في السجن مجردّين الآن من حقوقهم المدنية من دون أن تهتز شعرة لنقابة المحامين، أو تنبري جماعة من الأطباء لمعالجتهم صحياً أو .. إلخ؟!!! إنها أسئلة برسم الجميع. ليست تحسّراً على ما فات، وليست استجداء لصدقة. فهذه التجربة بكل ما لها وما عليها ما عادت ملكاً حصرياً لمن خاضها. وما ذكرته ليس سوى عيّنة لا نهائية من الأسئلة المرَّة التي انتابتنا داخل السجن وخارجه على السواء، هي أمثلة شبه نموذجية عن بعض عوامل الخذلان والإضعاف، وبالتالي فإن الشفاء من تداعيات الأسر الطويل يرتهن بعناصر عدة منها، الطبيعة الذهنية والنفسية للفرد، وطبيعة التجربة، وكذلك مجمل الشروط التي تلي محطة “الانعتاق”؛ أقصد ألاّ يكون ما ينتظرك هو مجرد حريّة مجازيّة أو انتقال جغرافي. أنا أؤمن بالنسيان الرحيم، لكنني لا أعتبر الماضي ماضياً إلاّ بمقدار التنكّر له، أو حذفه من تقويم الكائن البشري، أما تجاوزه على نحو إيجابي وفعال فهذا هو التحدي المطلوب.

من لحظات الضعف الأخرى، والتي تشكل في حدّ ذاتها شحنة إنسانية عارمة، أن يعتريك وجه أمّك أو زوجك أو ابنك!! أو أن تبادرك طفتلك على نحو مفاجئ وربما متوقع، قائلة: “أبي! لم أستطع أن أتذكّر منك شيئاً، على الرغم من صورك الموزّعة حول سريري!!!”.

حين خرجت من المعتقل استقبلني والدي متوكئاً على عكازه الذي ورثه عن أبيه وقال وهو يغمرني بشيخوخته ذات العقد التاسع: هل تذكر يا بني تلك الخلاصة التي دونها النبي يوسف عليه السلام على جدار سجنه لحظة إطلاقه “هنا مقبرة الأحياء .. هنا تجربة الأصدقاء؟!”.

* * *

قاصر كل قول عن الإحاطة بفيض المشاعر التي انتابتني لحظة عناقي “الحرية”. ما من شك في أن رئتيَّ اتسعتا عن حاجتي بمقدار صراخ، على الرغم من إصابتي الرّبوية. أوجعني النور من جرّاء مديد الظلمة التي أُودعناها. وكان الاختبار الأوّل، قل الانتشال الأول، صوت ابنتي على الطرف الآخر من الخط الهاتفي. صوتٌ لم أتبيَّن من حشرجاته وفوضاه سوى موعدٍ على مفترق الجادة المؤديّة إلى بيت لا أعرف موقعه إلاّ في خارطة البال. دوّامة من الأحاسيس المتناقضة والأسئلة المشرعة كانت تتناهب الروح والعقل آنئذ. بعد قليل ستلتقي بكل منتظريك على قارعة الغياب، يرفعونك إلى السماء السابعة من انعدام الوزن، ويجرَّدونك من الزمان والمكان في طرفة عين. لكنْ، ما إن تقع عيناك على أمٍ ترى فيك ابنها الأسير بعدُ، حتى يستبدّ بك البكم فتطرق رأسك لكأنك المسؤول عن إبقائه رهن الأسر. تطالعك وجوه من ودعوك عند الباب الأوّل وشيّعوك حتى الباب الأخير المؤدي إلى “حريتك” وأنت أعجز عن التفاتة إلى الوراء. تزدرد شهقةً أمِلوها لك صعدَاء، فتنكمش خلايا الفرحة منذ تلك اللحظة. إذ ذاك تتأكد للمرة الألف من أن لا شيء بلغ منتهاه بعد: لا الفرح ولا الحزن، لا المكتسبات الصغيرة ولا الخسائر، حتى أن اسمك الذي كان لك ذات ولادة، يعود إليك متوجّساً، قبل أن يستجمع شجاعته وينزع عنك الرقم الذي منحته خلال سني أسرك.

 أنت خارج من “العالم الآخر” إلى عالم لا يشبهك، كأن كلاً منكما غريب عن الثاني. تقتحم الحياة وأنت مدرك تماماً أن الكثير من معاييرك الأسرية صارت في عهدة الماضي وأن صراعاً، من نوع آخر، سوف تكون معنياً بخوضه، ليس أقلّه ردم تلك الهوّة الزمنية التي تفصلك عن البشر، بكل ما انطوت عليه من تغيرات. إذ ذاك، أيضاً، تترسّخ لديك حقيقة أن القدَر الذي اخترته طواعية ذات يوم لا يتوقّف ثمنه عند الشريحة الزمنية التي سدّدتها من عمرك، بل يتعدّاها عمقاً واتساعاً. فالتصورات والأفكار التي كنت تجهد في صوغها داخل الأسر لم تكن تُمتحن على محك الواقع بما يكفي لتجنيبك المفاجآت اللاحقة على مسرح الحياة.

* * *

لا يكفي القول إن اعتقالي، بوصفي سجين رأي، كان مظلمة كبيرة. فالظلم الأكبر هو ما يتصل بظروف الاعتقال والتحقيق وشروط السجن الرديئة، خاصة في السنوات الخمس الأولى، ناهيكم عن شروط المحاكمة وآثارها الكارثية التي لحقت بنا خارج السجن: كالتجريد من الحقوق المدنية، وكذلك ما يترتب عليها من نتائج اقتصادية واجتماعية وحقوقية. ففي ظل غياب العدالة، بل في غياب القانون أصلاً، ليس ثمة حام أم مرجع يمكن أن يفزع إليه المرء، وهذا ينطبق على مساحة زمنية امتدت لعقود كانت خلالها قوانين الاستثناء والأحكام العرفية – وما تزال بالطبع – سيفاً مسلطاً على رقابنا.

إن ظروفاً كهذه شكلت مع الزمن واقعاً استثنائياً هو الآخر، يستمد قوته واستمراريته من الخوف والمصلحة، ومن القناعات الايديولوجية والسياسية التي تستميت في الدفاع عن كل ما قائم من ظلم وفساد وتغييب للقانون وانتهاك للحريات، العامة والفردية على السواء، وتسيّد مطلق على الجميع. وهنا بالضبط يصبح الاحساس بالظلم مزدوجاً – بماضيه وراهنيته – وما دام الحاضر مقروناً إلى نير الماضي وينوء بثقله وتركاته إلى حد الجهالة. وهنا بالضبط لا يعود ممكناً أصلاً فصل المعاناة الفردية عن تلك التي يكابدها المجتمع بأسره. وبالتالي فإن الحديث عن الأمل أو فقدانه، عن التفاؤل أو التشاؤم، يكف قطعاً عن أن يكون مجرد نتاج طبيعي للنزعة الفردية. بوسعي الزعم أن طبعي التفاؤلي قد زودني بالأمل والصبر طوال سنوات الأسر، بيد أن ذلك لا يغير كثيراً من حقيقة أن ما واجهناه من إحباطات وآلام وفداحات كان فظيعاً.

قبيل خروجنا بعام كنا – نحن النظّارة عن بعد – نسمع ونقرأ ونراقب ونتأمل الأحداث والتفاعلات الجارية في ساحتنا السورية ونحن بين مصدق ومستغرب، ليس لأن ما يحدث غريب من حيث المبدأ، وإنما لأنه يحدث في سورية على وجه التحديد، مدركين في الوقت نفسه أن المناخ العام الذي رافق تلك المتغيرات قد سمح لنوع الحراك السياسي الجزئي بالظهور وذلك تعبيراً عن التوق المزمن إلى الحرية والرغبة في مواكبة التطورات العالمية المتسارعة والمتلاحقة، وربما أيضاً انطلاقاً من إحساس البعض أن ملامح جديدة قد ترتسم في الأفق القريب. وقد أطلقت تسميات عديدة على هذه الأجواء: “ربيع دمشق”، “الحرية أخيراً”، “بشائر الإصلاح” .. إلخ، مستمدة فحواها من مقابلات الرئيس وخطاب القسم وما تلاها من نشاطات عامة مختلفة: مقابلات إذاعية وتلفزيونية، بيانات وتصريحات، حوارات على صفحات الجرائد المحلية والعربية، منتديات ثقافية وسياسية. بيد أن لجوء النظام إلى مواجهة هذه النشاطات الديمقراطية، وعلى الرغم من طابعها السلمي – الإصلاحي الصرف – بطرائق قديمة جديدة (أمنية) يؤكد استمرار البنية العقلية والنفسية ذاتها للنظام السياسي. كما أن الخطاب السياسي للنظام لا يزال يتجه إلى الخارج أصلاً وليس إلى الداخل.

ما من شك في أن الضرورة الموضوعية هي الباعث الفعلي لأي تغيرات، نوعية كانت أم كمية، وإذا كان “الإصلاح” في سورية ابناً شرعياً لهذه الضرورة، وهو كذلك حقاً، وإذا كانت الأزمة العامة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والايديولوجية جاثمة ومستفحلة إلى حد لا يمكن معه إنكارها فإن السؤال الأهم يرتبط أولاً بالاعتراف بوجود الأزمة ثم بالبحث عن جذورها ومعاينتها وتشريحها دون أي خداع للذات، أي بطرائق كفيلة بأن يبعث “بعل” من عالمه السفلي ليس بصفة موسمية وإنما كضرورة فعلية لإعادة الروح إلى الجسد المجتمعي برمته.

* * *

أما بصدد سير المحاكمة وتوجيه التهم إليَّ من قبل محكمة أمن الدولة العليا وصولاً إلى جلسة النطق بالحكم فيمكن إيراد ما يلي:

في 7/5/1992، أي بعد يومين من وصولنا إلى سجن صيدنايا، جرت إحالتي إلى محكمة أمن الدولة العليا، وكانت الجلسة الأولى في هذا التاريخ، والجدير بالذكر أن أكثر من خمس سنوات كان مضى على اعتقالي عرفياً، وهناك معتقلون آخرون كانوا قد أمضوا أكثر من عشر سنين قبل إحالتهم إلى هذه المحكمة. ولعلَّ قراراً كان قد اتخذ بإحالة معتقلي الرأي جميعاً، شمل أحزاباً سياسية أخرى: الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، حزب البعث الديمقراطي، حزب العمال الثوري، حزب العمال الكردستاني P.K.K، إضافة لمعتقلي لجان الدفاع عن حقوق الإنسان وقوى قومية وإسلامية أيضاً.

وبصفتي عضواً في حزب العمل الشيوعي في سورية، ومؤيداً لبرنامجه السياسي وشعاراته التي أقرّها المؤتمر التأسيسي، وممارساً لحقي الذي مُنحتهُ أصلاً من قبل الدستور السوري – على الأقل نصّاً – فقد تمت ملاحقتي ومن ثم اعتقالي فمحاكمتي.

رفضت الإجابة على جميع الأسئلة التي وجَّهها إليَّ قضاة التحقيق، اللهم ما خلا تأكيد عضويتي وموقعي التنظيمي في الحزب وقد طالبتُ على غرار الكثيرين، بإحالتنا إلى محكمة مدنية عادية علنية وعادلة بديلاً عن محكمة أمن الدولة العليا الاستثنائية واللادستورية، ولمّا كان ذلك مستحيلاً فقد طالبنا بعلنية الجلسات مراراً، وكان ثمة استجابة جزئية من قبيل السماح لذوينا ومحامينا بالحضور. وخلال هذه الفترة تقدّمت بطلب رسمي إلى رئاسة محكمة أمن الدولة العليا ذكرت فيه:

“السيد رئيس محكمة أمن الدولة العليا:

سبق لي وقبلت أن أوكّل محامين للدفاع عني، كما تهيأت للدفاع عن نفسي شخصياً، أملاً أن تتيح لي المحكمة ولو حدّاً أدنى من الشروط والحقوق التي تسمح لي على الأقل بإيصال صوتي إلى المعنيين والمهتمين من أبناء شعبي وقواه السياسية، والهيئات المختصة بحقوق الإنسان محلياً وعربياً وعالمياً.

وإذا ظهر بعض الإيجابيات المحدودة جداً في بداية سير المحاكمة، والتي كان يمكن لها، لو استمرت في التصاعد إيجابياً، أن توفّر جزءاً بسيطاً من شروط المحاكمة العادية المعروفة لديكم جيداً. إلاّ أن الوقائع اللاحقة لم تكن متناسبة حتى مع الوعود التي قدّمت في الجلسات الأولى، لذلك أرى لزاماً عليّ إبلاغكم أنني أرهن استمراري في توكيل المحامين بتوفّر شروط المحاكمة العلنية والتي ألخصها بما يلي:

1 – السماح لكل من يرغب بحضور الجلسات.

2 – السماح للمحامين وللمتّهمين بتقديم مرافعاتهم شفهياً.

المعتقل بسبب الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي في سورية – عباس محمود عباس”.

بالطبع لم تجد مطالبنا هذه أذناً صاغية، زد على ذلك أننا حُرمنا كمتهّمين من حيازة لائحة الاتهام التي تُليت على مسامعنا شفهياً. وقد تضمنت اللائحة الموجهة ضدي التهم التالي:

1 – جناية الانتساب إلى جمعية أنشئت بقصد تغيير كيان الدولة وفق المادة 306 من قانون العقوبات العام.

2 – جناية مناهضة أهداف الثورة عن طريق القيام بالتجمّعات والتحريض على أعمال الشغب وبنشر الأخبار الكاذبة بقصد البلبلة وزعزعة ثقة الجماهير بأهداف الثورة وفق المادتين 3 و4 من المرسوم التشريعي رقم 6 لعام 1965.

3 – جناية القيام بأعمال مخالفة لتطبيق النظام الاشتراكي.

خلال الفترة اللاحقة كانت الجلسات تتواصل بين تأجيل وانعقاد شكلي إلى أن تبيّن لي بما لا يقبل الشك أن جميع المطالب المطروحة كانت تتبخّر تدريجياً، الأمر الذي دفعني إلى تقديم بيان مقاطعة في إحدى جلسات الدفاع التسويفية، بعد أن كنت قد حضّرت مرافعتي الشخصية، وكذلك المرافعة الجماعية التي شاركت في إعدادها وصياغتها، كما كنت قد أبلغت المحامين الموكّلين بالدفاع عني بموقفي هذا وسحبت التوكيل. وقد جاء في بيان المقاطعة، الذي سلمتّه إلى المحكمة ما يلي:

“منذ البداية كان واضحاً لي، وكنت مدركاً تماماً ماذا يعني أن أمثل أمام محكمة استثنائية تشكّل في الأصل امتداداً عضوياً للسلطة التنفيذية التي هي من وجهة نظري سلطة ديكتاتورية استثنائية لا شرعية، مثلما كان واضحاً لي بالقدر نفسه أن القوانين التي أحاكَم في ظلها هي أيضاً قوانين الطوارئ الإستثنائية، والأمر نفسه فيما يتعلق بالمرسوم 6 الذي أحاكم بالاستناد إليه. ومع ذلك قبلتُ أن أوكل محامين عني كما تهيأت للدفاع عن نفسي شخصياً أملاً في أن تثبت المحكمة بالملموس قدراً من الاستقلال الكافي عن توجيهات السلطة التنفيذية وأجهزة الأمن، خصوصاً بعد ظهور بعض الإيجابيات المحدودة جداً في بداية المحاكمة التي كان من المقدَّر لها، لو استمرت في التصاعد إيجابياً، أن توفر جزءاً ولو بسيطاً من شروط المحاكمة العادية.

ولأن الوقائع اللاحقة لم تكن متناسبة مع الآمال، والوعود التي قُدمت سابقاً، ولأن جميع جلسات الدفاع تنعقد دون أن يسمح لمن يرغب بحضورها الدخول إلى قاعة المحكمة، دون أن يتاح لي أو للمحامين تقديم المرافعة بصورة شفهية، لا سيّما أن مقابلتي الوحيدة مع المحامي لم تتح لي الاطلاع على دفاعه عني، ولأنني اضطررت أيضاً لإعداد دفاعي الشخصي دون تسلُّم نصّ الاتهام مكتوباً .. أقول لأن كل ذلك كذلك .. ولأن المحكمة لم تثبت بالملموس استقلاليتها عن السلطة التنفيذية مما جعلها تفقد هي الأخرى أي شرعية، فإنني أسحب توكيلي من جميع المحامين الذين سبق لي أن وكلتهم وأعتبر أن أي محام تعيِّنه المحكمة لا يمثلني إطلاقاً، وأعلن مقاطعتي لمحكمتكم، وأعتصم بالصمت، محتفظاً بما أعتبره حقي في حجب دفاعي عن هيئة المحكمة، وتقديمه إلى أعلى مرجعية في وطني .. أعني شعبي.

المعتقل بسبب الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي في سورية – عباس محمود عباس”.

قررت المحكمة بتاريخ 27/6/1995 وبموجب القرار رقم 33 تجريمي بـ:

1 – جناية الانتساب إلى جمعية والحكم عليَّ بالأشغال الشاقة مدة خمس عشرة سنة.

2 – جناية مناهضة أهداف الثورة والحكم عليّ بالأشغال الشاقة مدة ست سنوات ولكون هذا الجرم مشمولاً جزئياً بقانون العفو رقم 11 لعام 1988، تمّ تنزيل العقوبة إلى أربع سنوات ودغم هاتين العقوبتين، وتنفيذ الأشد، وهي أشغال شاقة مدة خمس عشرة سنة وفق المادة 204 من قانون العقوبات العام.

3 – جرى تجريدي مدنياً عملاً بأحكام المادتين 50 و63 من قانون العقوبات العام، على أن تُحسب لي المدة اعتباراً من 14/4/1987.

4 – براءتي من جناية مخالفة تطبيق النظام الإشتراكي.

والتعقيب الوحيد الذي يمكن قوله بصدد هذه الأحكام هو أنها خارج نطاق المعقول، وأنها أحكام سياسية أمنية لا تمت إلى المشروعية القانونية بصلة.

أحكام رادعة عقابية مطابقة للتهم التي فُصِّلت سلفاً على قدّها، مجرِّدة المتهم وجهة الدفاع من وسائل الطعن أو النقض لدى أي مصدر قضائي.

وهذا بحد ذاته ما يؤكد لا دستورية تشكيل محكمة أمن الدولة العليا، ومجافاة مرسوم تشكيلها لقواعد العدالة والحق والقانون، وتناقضها الصارخ مع المادة 18 الفقرة 4 من الدستور السوري: “حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والدفاع أمام القضاء وصونه بالقانون”. ناهيكم عن المواد والفقرات الدستورية الأخرى!!!

المعلومات الأساسية

تاريخ الصدور

2004/02/05

اللغة

العربية

نوع الوثيقة

شهادة

البلد المستهدف

سورية

كود الذاكرة السورية

SMI/A200/549136

مصدر الوثيقة

اللجنة السورية لحقوق الإنسان

كيانات متعلقة

شخصيات مرتبطة

يوميات مرتبطة

لايوجد معلومات حالية

درجة الموثوقية:

الوثيقة

  • صحيحة
  • غير صحيحة
  • لم يتم التأكد من صحتها
  • غير محدد