بعد دخولي لسجن تدمر (العسكري) الفظيع والرهيب دخلت المهجع 2/3 جديد الثالثة أمضينا عدة شهور ثم انتقلنا إلى المهجع 2/6 يُسموه جديد ستة، التقيت في هذا المهجع بأشخاص كثيرين بتعبير آخر كان عبارة عن سورية مصغرة فيه من كل المحافظات، من المسيفرة أبو عبد الله خريج شريعة ومن الحسكة ومن الميادين والبوكمال ومن هجين ومن مناطقنا من الشمال ومن اللاذقية مثلا أحمد معلا ومن بانياس عمر البانياسي وعلي خدام واللولو ومن حماة وحمص، من حماة عبد الله الطحان وعبد الله الشواف وحمدي عاشور وأحمد عاشور وغازي عاشور ومن دمشق مازن دبس ولبن وعماد دبس ولبن ومحمود نفيسة، شباب كثيرين.

أمضينا في هذا المهجع عدة سنوات طُبعت بذاكرتي ذكريات لا تنسى على الإطلاق، أحد مرات شاب اسمه أسعد عبيسي من حماة قال لي: كيف سننسى تدمر وانحفر بدمائنا، قلت له: كيف انحفر سجن تدمر في دمائنا والدماء تجري ولا تتوقف عن الجريان، هذا كناية أن الحفر عميق والآثار عميقة جدًا بحيث لا تندمل.

 في المهجع الجديد 6/2  ممكن أذكر أشياء كثيرة تتعلق بالمعيشة اليومية بالتعليم بالتعذيب بالقهر بعض الأناشيد بالإعدامات أيضًا، على سبيل المثال نبدأ بالتعليم، نستيقظ الساعة 6:00 صباحًا، يأتي السجان وينادي باسم كل مهجع و يتلفظ بألفاظ و كلمات سيئة وقبيحة جدًا، كان تحتنا عازل و بطانية وبمجرد قال: استيقاظ نجمع هذه الأغراض، و البعض مباشرة للتواليت لأنه في الليل ممنوع يقضي حاجته بالليل، وفي الساعة السادسة والنصف يكون الجميع جاهزًا، ومباشرة يبدأ الشباب بحفظ القرآن الكريم، كنا نُعطي مواعيد لبعضنا، مثلًا أنا حفظت سورة ياسين وسأحفظك إياها أُعطيك موعدًا مثلا السادسة والنصف وهكذا نحفظ قرآن الكريم، والعلم من الصدور، طبعًا علوم شتى لكن صباحًا للقرآن الكريم، ونبقى لمدة ساعة، و الفطور بين السابعة والنصف والثمانية، كنا نسمع قرع الأبواب ونحن نقرأ القرآن الكريم نسمع صوت البلدية يُوزعون الشاي أمام المهاجع، ويتم التوزيع مع كلمات بذيئة وسيئة وسب وشتم و و...  افتح الباب يُفتح الباب ويكون فدائيين عبارة عن مجموعة من الشباب معظمهم شباب كرست نفسها وحياتها وروحها فداء للإخوة الآخرين فداء للناس كانوا يتشبهون بالصحابة نحن نشبههم بالصحابة طبعا مع فارق التشبيه، ولكن إن التشبه بالكرام فلاح، يكفي فخرا إن التشبه بالكرام فلاح،  والشباب كانت قضيتهم الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام، فكانوا عبارة عن فدائيين يرمي نفسه للموت أمامك ولا يريد منك لا جزاء ولا شكورًا، وليس لخدمة معينة أو لقاء أجر معين فقط يُضحي بنفسه وبجسمه وبكل ما يملك فقط خدمة للآخرين خدمة في سبيل الله، وذكرت أن الفطور أو توزيع أي شيء يكون مصحوبًا بالشتم و السب و الكلام الفاحش و التعذيب و الضرب، والفطور عبارة عن شاي و إما لبنة أو زيتون.

 بعد أن نتناول الفطور عبارة عن عدة حبات زيتون أو معلقة صغيرة من اللبنة كنا نضعها بصحون صغيرة بلاستيك وكنا ندور الكأس نشرب كلنا منها، ومجموعة الأكل ثمانية أشخاص أو ستة فكنا نُدور الصحن علينا حتى ينتهي الصحن.

 بعد الفطور غالبًا يأتي التنفس تخرج للباحة لاستنشاق الهواء وتُغير الجو الفاسد ضمن المهجع نتيجة العدد الكثير، كنا في المهجع 6/2 كان هناك 186 إنسان، وكنا ننام بصعوبة على جانب واحد (تسييف)، وبعد الإفطار هذا إذا كان يومًا طبيعي بعد الإفطار نخرج للتنفس الذي هو عبارة عن لفحة من لفحات جهنم، أنا كتبت كتابًا اسمه لفحات في سجن تدمر تحدثت في هذا الكتاب عن التنفس.

 بعد التنفس الذي يكون الساعة 11 وهو عبارة عن معركة حامية الوطيس لكن من جانب واحد فقط، ثم نبدأ التعليم مباشرة كان أكثر شيء بعد هموم السجن وتعذيب السجن ويشغل الناس هو التعليم والعلم، فكانت الناس ترجع لحفظ القرآن الكريم على الرغم من كل الجراح، يحفظ حديث الرسول عليه الصلاة والسلام واللغة العربية، أنا بالنسبة لي كنت أعطي العصر إنجليزي، وكنت أحفظ القرآن الكريم وحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وحفظت ألفية ابن مالك وحتى الإعراب واللغة العربية وأصول الفقه، وهناك من اختص في الفيزياء والرياضيات، وأي علم تُريده موجود، مثلًا كنت بالإضافة لعلوم القرآن كنت أسأل عن اللغة الإنجليزية لأطور نفسي، كنت أُعطي دروسًا في اللغة إنكليزية لكن بنفس الوقت أسأل، ولاحقًا التقيت بفواز فواز كان القنصل السوري في قبرص، رجل محترم ولغته الإنجليزية جيدة استفدت منه كثيرًا.

 بعد هذه الفترة يأتي موعد التفقد عند الساعة 01:00 تقريبًا، كنا نُنظف المهجع ونُجهزه ونقف للتفقد، إذا كان المهجع صغيرًا يخرجون لخارج المهجع للتفقد أما إذا كان المهجع كبيرًا التفقد ضمن المهجع، بعد التفقد وما فيه من مشقة وعناء وعذاب وتعذيب وضرب وتكسير الأضلاع، أيضًا عند إدخال الطعام عناء ومشقة وشتم وسب وتعذيب بشكل لا يوصف لنصل لمرحلة لا نُريد الطعام نهائيًا، وبالأصل الطعام كان يسد الرمق فقط كيلا نموت ونبقى على قيد الحياة، وصلنا لمرحلة مثل أفريقيا هيكل عظمي، ضعفت أجسامنا، وانتشر مرض السل بشكل كبير فتك بالسجن حتى الباحة السادسة في سجن تدمر تحولت كلها إلى مرضى السل، لأن المسؤول الصحي عندما يتأكد من الإصابة بمرض السل يعزل المريض ثم يأخذوه إلى الباحة السادسة التي امتلأت بمرضى السل، وهو مرض خطير ومعدي.

  قبل العصر كانت لدي جلسة لغة إنجليزية والناس تصطف على الدور يمكن ستة شهور حتى أُعطيه درس لغة إنجليزية، وأحيانًا أعطي جلسة ثانية بعد العصر لأنني كنت ممن يُحبون العلم ويهتمون بالعلم وعلمتهم قدر المستطاع، كنت أعطي لغة وأتعلم علومًا ثانية وخاصة علوم القرآن الكريم.

  قبل العصر الجلسة المسائية وأحيانا بعد العصر، أحيانا في الصيف يكون التنفس بعد العصر، أيضًا هي معركة من جانب واحد وكنا فيها دائمًا الخاسرون.

بعد المغرب يُغلقون الباب علينا، وكنا عند المساء نلتقي مع بعضنا ونتكلم ولكن بصوت منخفض جدًا غير مسموع لأن الكلام والصوت ممنوع، ومع العلم أننا كنا بمهجع واحد لكن يجب أن نأخذ موعدًا من بعضنا لنتعلم أو لنتكلم مع بعضنا لأن الناس مشغولة بتحصيل العلم والتعليم، وكانت هذه الظاهرة لها تأثير إيجابي علينا وعلى نفسيتنا وعلى علاقتنا ببعضنا البعض.

 بالنسبة لأدوات التعليم أو وسائل التعليم كنا نصنع من غطاء علبة الحلاوة بعد دهنه بمادة الزيت وخشبة صغيرة وأكياس النايلون لنجعله مثل الورقة ونكتب عليه، وقد تفنن بعض الشباب باختراع ما نحتاجه لأن الحاجة أم الاختراع، الطريقة الثانية هي (طبة) الإخوة الحمويين يقولون لها هكذا، كيس النايلون نفسه نقسمه إلى أقسام نأتي بأول قطعة من النايلون، ومن آثار جاط الأكل ندهنه بالزيت أو الدهون ونضع قطعة نايلون ثاني، وأحيانًا نضع قطعة ثالثة، تزيل الطبقة الأخيرة بعد أن تضغطهم على بعضهم وترفعها فيصبح هناك مجال للكتابة (لأن يعلم مكان القلم الخشب على النايلون).