افتتاحية جريدة الرأي: "عام التغيير العربي، عام انتصار الديمقراطية"
عام التغيير العربي، عام انتصار الديمقراطية
18/02/2011
الافتتاحية:
عام التغيير العربي
عام انتصار الديمقراطية
لو أسرف المنجمون في توقعاتهم قبل نهاية العام المنصرم، (كما يفعلون كل عام) لما استطاعوا أن يتخيلوا أن ماجرى في تونس، وما يجري في مصر سيكون من وقائع العام 2011 حتى أولئك الذين شاركوا في صنع الحدث، أو كانوا وقوداً له، لم يكن يجمح بهم الخيال لاعتبار ما قاموا به حدثاً تاريخياً، يغير وجه بلادهم، ويفتح باب التغيير على مصراعيه أمام المنطقة، ويكون له ما بعده ولم تشكل انتفاضة الشعبين التونسي والمصري مفاجأة للحاكمين وحدهم، إنما للمجتمع أيضاً، وللنخب السياسية والثقافية المعارضة التي كانت تنتظرها وتعمل من أجلها وانسحبت المفاجأة الكبيرة أيضاً على العالم الخارجي بدوله وأجهزته ومؤسساته ولم تكن مراكز البحث والدراسات ومنظمات المجتمع المدني أقل مفاجأة من غيرها وكأن انتفاضة الشعب ولدت من هدير مكتوم، راكمته عقود القمع والمهانة والجوع الكافر، وفجرته شهوة الحرية والكرامة والعدل التي كانت نائمة، في حين اعتقد الظالمون أنها ماتت، وانتهت إلى غير رجعة وهذا يفسر الحفاوة الكبيرة التي قوبلت بها الانتفاضة من قبل شعوب المنطقة وأصدقاء الحرية والعدل وحقوق الإنسان في العالم أجمع، وحجم الإحراج والارتباك الذي أوقعته في صفوف النظم الحاكمة خاصة في أوروبا وأمريكا وفي الأوساط الدولية، ومقدار الخوف والهلع الذي أثارته في نظم الاستبداد العربية فخلال أقل من شهر يسقط الشعب نظامين مدججين بقوة القهر والتسلط، ويطرد اثنين من أشهر الحكام المستبدين العرب، والحبل على الجرار
لقد شاخت الأنظمة العربية مع حكامها فمنذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، حيث استقرت نظم الاستبداد على أعناق الشعوب، فصَّلت الأنظمة الدول على هواها، وأغلقت باب التغيير والتداول السلمي للسلطة برتاج القمع والإرهاب وتهميش المجتمع واختراقه واستولدت – دون خجل – شعاراً سلطانياً، ينتمي للعبودية والقرون الوسطى اسمه ” إلى الأبد ” فلم يعد غريباً أن يحكم تونس رئيسان خلال أكثر من نصف قرن، هو عمرها الكامل كدولة مستقلة ويستمر عقيد ليبيا في الحكم لمدة 42 عاماً مستمرة دون أن ينتهي عنده جوع التسلط ويتابع الرئيس اليمني فترته الرئاسية المستمرة منذ 33 عاماً دامياً، والرئيس المصري منذ 30 عاماً أنهكت روح مصر كما تستمر سورية تحت حكم رئيسين أب وابنه لمدة 41 عاماً، وما زالت مفتوحة من هنا يمكن تفهم مظاهر الانتفاضات الشعبية التي حصلت أو يمكن أن تحصل، وأنها تتركز في جمهوريات العرب وليس في ممالكهم وإماراتهملأن هذه الجمهوريات أصبحت شكلاً من أشكال النظم الملكية المطلقة بغلاف رئاسي شعبوي رث. يلاحقها سوء السمعة والسلوك داخلياً وخارجياً، وضعف الكفاءة والإنجاز على الصعيد الوطني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وبذلك أفرزت الغضب الشعبي المتفجر الذي لم يعد حبسه خلف الأبواب المغلقة والقنوات المسدودة ممكناً ويبدو أن كبحه بكل وسائط التزييف والإكراه لم يعد متاحاً فساعة التغيير في المنطقة العربية دقت، وما القضية إلا قضية وقت
زمن الأحلام والأوهام المتكسرة
في أعقاب الحرب العالمية الثانية وما أفرزته على الصعيد الدولي، وبتأثير من تجربة دول “المعسكر الاشتراكي” البازغة بعد الحرب، ونتيجة لزرع إسرائيل كدولة استيطانية في قلب العالم العربي، سادت خلال الخمسينات والستينات صيغة سياسية للحكم في الجمهوريات العربية الناشئة مزدحمة بالكثير من الأحلام والأوهام وها هي اليوم تواجه مصيرها المحتوم عبر سقوط مدوِ، بعد أكثر من عقدين من سقوط التجربة الأصل التي شكلت القدوة والمثال
حملت الصيغة المستحدثة طبقات جديدة إلى الحكم واستولت على السلطة بفعل انقلابات عسكرية، قادها ضباط وطنيون ومغامرون (مصر – ليبيا – السودان – اليمن)، أو أحزاب أيديولوجية انقلابية (سورية – العراق)، أو نهضت على خلفية قوى وأحزاب وطنية، تصدت للنضال ضد الاستعمار ومن أجل الاستقلال (تونس – الجزائر – اليمن الجنوبي)، فكان من الطبيعي أن تقود الدولة الوطنية الناشئة ولأن الحكم الجديد قاطع الحياة الديمقراطية في بلاده، وتنكر لمقتضيات الشرعية الدستورية، التي تتأسس عليها الدولة الحديثة، فقد اختط لنفسه ” شرعية ثورية “، يبرر فيها حالة الطوارىء والأحكام العرفية، التي أتاحت له الانفراد بالحكم وفرض إرادته بالقوة العارية على البلاد والعباد وفق رغبوية فجة، لا تأخذ دائماً حقوق الشعب ومصالح الوطن بعين الاعتبار تم ذلك في ظل شعارات شعبية، بعضها حقيقي وبعضها زائف، أثارت اهتمام الناس، ودغدغت مشاعرهم، مثل: إحراز الاستقلال الوطني، وإنجاز التوحيد القومي، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاشتراكية وأسرفت السلطات في إغداق الوعود وإطلاق الخطط الخمسية ومشاريع التنمية الشاملة، غير أن الحصيلة كانت متواضعة واحياناً بالغة السوء وأحياناً أخرى مدمرة واختلطت الأحلام الموعودة بالأوهام المتكشفة وبقيت الشعارات الكبرى التي غطت الشرعية المتآكلة للنظم مجرد شعارات، وبدأت تأخذ طريقها إلى الإهمال والتندر والنسيان
أظهرت الشعوب تسامحاً طال أمده مع النمط الاستبدادي للحكم، مقابل آمال التنمية وبناء دولة قوية ومستقرة، تواجه إسرائيل وتحرر الأراضي المحتلة، وتقيم العدل والحرية، وتحقق الكرامة الوطنية والوحدة العربية فكانت النتيجة أن تلقت آمالها خيبة كبيرة، وبقيت وجهاً لوجه أمام التهميش والفساد والعنف السلطوي العاري والتفريط بالمصالح الوطنية للشعب
انكشفت هذه التجارب – التي اصطلح على تسميتها بـ “حركة التحرر الوطني العربية” – بهزيمة 1967، ووصلت إلى نهايتها المحتومة إلا أن الوضع الدولي آنذاك ساعدها على التكيف مع الواقع الجديد، فأفرزت من جلدها وروحها أنظمة جديدة- قديمة، شكلت نظاماً عربياً متماثلاً، رغم ملموسية الخصائص المميزة لكل نظام، أُطلق عليه بكل جدارة واستحقاق ” نظام الاستبداد العربي “، الذي تسيَّد البلدان العربية منذ مطلع السبعينات فتحولت الدولة إلى دولة أمنية وأقامت الأجهزة السلطوية الضخمة (حزبية كانت أم أمنية أم حكومية) نظامها الشمولي الذي احتل كلاً من الدولة والمجتمع بوساطة عصبية فئوية جديدة، حزبية هنا وطائفية هناك وقبلية هنالك، وهي كل ذلك في مكان آخر فتعسكرت الحياة العامة، وألغيت السياسة من المجتمع لصالح الحزب القائد والحاكم الفرد وتحول الشعب إلى رعية، والحقوق المشروعة إلى عطاءات ومكرمات، والدولة ومؤسساتها إلى عزبة للحاكمين وأولادهم وأقاربهم وزبانيتهم ولم يعد الوطن لكل أبنائه ومن أجل التغطية والتمويه على التهتك الذي أصاب شرعية الأنظمة نتيجة تصرفات الدولة البوليسية، كان لا بد من توفير وسائل وأجهزة شكلانية جديدة، تمثل اكسسوارات ضرورية للحكم وتجميل وجه النظام الاستبدادي، الذي أخذ يتعرى بسرعة، ويدخل في القمع والنهب ومعاداة شعبه أكثر فأكثر مثل: الدستور المفصل على قياس الرئيس ويتعدل بإرادته، ومجالس الشعب والشورى الصورية، والجبهة الوطنية التقدمية والهيئات الاستشارية والتمثيلية المتنوعة وتحت شعار التحديث وبناء “الدولة الحديثة”، استمر إخضاع الناس بالإكراهات التقليدية القديمة والمستحدثة وقدمت الحداثة على أنها تجديد في الشكل الخارجي واستيراد للتقنيات ودخول في عصر الاستهلاك وقامت هذه النظم “الثورية” بشرعنة العنف في المجتمع عبر الإفراط في استخدامه خارج الإطار القانوني، والاطمئنان لسياسات الاستئثار والتمييز والقمع التي اعتمدتها في العلاقة مع المجتمع وقواه السياسية والاجتماعية والاقتصادية وخرقت قاعدة المواطنة بالتمييز على أساس سياسي أو قومي أو طائفي أو جهوي، مما أضعف التماسك الاجتماعي والوطني للشعب، وأدى إلى تكسير وحدته الوطنية، وتبديد مخزونه الثقافي الإيجابي ومنظومة القيم السامية التي يؤمن بها
شهدت هذه المرحلة المستمرة حتى اليوم تصاعداً في هيمنة أجهزة الضبط والربط والدعاية، وتزايداً في ضيق دائرة السلطة الفعلية في الدولة وأصحاب القرار فيها، حتى تركزت ببضعة أشخاص، يشكلون أقارب الرئيس وصحبته وأزلامه كما شهدت استيلاء غير مسبوق على مصادر السلطة والثروة في البلاد وتركزها في يد السلطة وأطرافها، مع قدرة على استخدامها والتصرف بها دون رقيب أو حسيب وشاعت أساليب النهب والفساد المنظم من أعلى هرم السلطة إلى أسفله، وتغلغلت في ثنايا المجتمع والدولة حتى نخرتهما وأدت فيما أدت إلى خراب الاقتصاد الوطني وإفقار الشعب، وتعميم ثقافة التواطؤ والصمت والخنوع والكسب غير المشروع (دبِّر رأسك)
وهكذا وصلت أكاذيب النضال الوطني ومشاريع التنمية الملفقة وإنجازات التطوير والتحديث وشعارات العدل الاجتماعي إلى نهاية كارثية، هي نهايتها وتكشف الوضع في البلاد عن حال مأساوية على جميع الصعد فالبلاد التي أسست ممالك المدن الأولى في التاريخ، وولدت على أرضها الامبراطوريات الكبرى وأقدم أشكال الدولة المركزية، وانطلقت منها الرسالات السماوية، تفشل دولها المعاصرة في القرن الحادي والعشرين في بناء وطن لأبنائها، وتبقيهم عالة على شعوب الأرض وصار التغيير ليس قضية حيوية ومطلوبة فقط، وإنما مهمة إنقاذية للوطن والشعب في الوقت نفسه
تونس.. دراما مدهشة
من المؤكد أن محمد البوعزيزي لم يتوقع أن يشعل لهيب جسمه المحترق شعلة الحرية في تونس كما لم يكن لأكثر المحللين تفاؤلاً أن يتوقع احتراق هشيم الاستبداد بهذه السرعة وسقوطه من شرارة احتجاج فردية لأن حالة الاحتقان والغليان والغضب التي تعتمل في صدور التونسيين منذ زمن، وتتفاعل بين صفوفهم، كانت مغطاة بقشرة واهية من غطرسة المتسلطين وإهمالهم البشع لأحوال الناس، بالاستناد إلى أجهزة القمع والدعاية، التي فقدت فعاليتها وصارت من _ا_لماضي وكأن الشارع التونسي لم يكن ينتظر أكثر من تضامن سيدي بوزيد مع شهيدها، لتنتقل موجة الاحتجاج والتضامن إلى باقي المدن التونسية، تحت شعارات ومطالب اجتماعية واقتصادية في البدء، ثم سرعان ما تحولت إلى الجوهر، لتصبح شعارات سياسية، تنشد الحكم الرشيد والحرية والكرامة والعدل
كانت الحركة شبابية خالصة، بنيت على أرضية المعرفة التقنية والصلات الألكترونية، مستقلة عن الأحزاب والقوى ومراكز الفعل السياسي والنقابي تحركها رغبة جامحة في استعادة الحضور الشاب في المعادلة الوطنية، بعد طول تهميش واستبعاد ورفض لاستمرار الوضع الاقتصادي والاجتماعي المزري وامتهان الكرامة وهي تتوجه بقوة ووضوح إلى الانتفاض على الواقع وانتزاع الحقوق “الشغل لنا استحقاق ياعصابة السراق” سرعان ما استجاب الاتحاد الوطني للشغل وتفاعل مع حركات الاحتجاج وفعلت ذلك بعض منظمات المجتمع المدني الأخرى كاتحاد المحامين وارتفع الصوت الهادر في الشوارع التونسية بمواجهة السلطة
عمل نظام بن علي – الذي ينام على حرير استقرار كاذب، ودعاية إنجازية دولية، ودعم خارجي عند اللزوم – على مواجهة تحركات الشارع بالتهديد والوعيد واستخدام أجهزة القمع ولما فشلت، حاول الالتفاف على الانتفاضة بخطابات للتهدئة، تدّعي تفهم الشباب، وتعد بتلبية المطالب الاجتماعية كفرص العمل وغيرها إلا أن الانتفاضة المتعاظمة صارت في موضع آخر، تطالب باستعادة الحريات عبر نظام ديمقراطي تشارك في بنائه وكان للجيش التونسي دور محوري وهام في انتصار الانتفاضة وخروج الديكتاتور مكرهاً إلى غير رجعة، عندما رفض أن يستخدم كأداة قمع ضد الشعب، وانحاز له
وكأي مستبد غاصب، لم ينس بن علي وأسرته وأتباعه أن ينهبوا من ثروة الوطن ما بدا لهم أثناء خروجهم إضافة إلى المليارات التي كدسوها في البنوك الخارجية خلال فترة حكمهم كما لن ينسى أبداً أن معاداة الشعب تفضي إلى السقوط والعزلة، حتى من قبل الأصدقاء والمنتفعين من أفراد ودول ومنظمات، وأن طائرته استجدت طويلاً مكاناً للهبوط، قبل أن تعثر عليه شفقة وإحساناً وكان من اللافت سرعة تخلي العديد من قيادات الحزب الحاكم عن مواقعهم وتبرؤهم من الحزب والابتعاد عنه كعنزة جرباء وكذلك مقدار رفض الشعب للحزب الشمولي، رغم أن التونسيين ناضلوا خلف هذا الحزب وفي صفوفه من أجل إحراز الاستقلال وبناء الدولة الوطنية إنها حصيلة عقود التسلط والنهب والفساد في دولة استبدادية قائمة على منح امتيازات للحزب الحاكم وقهر المعارضين واضطهادهم
لقد سعى التونسيون وراء إرادة الحياة، وحطموا قيودهم وعجزهم، وأنجزوا التغيير في بلادهم فربحوا شرف الريادة في إعلان عصر التغيير الديمقراطي في المنطقة، الذي سرعان ما تردد صداه في البلدان العربية، وصارت مصر محطته الثانية
التاريخ يصنع في بر مصر
يؤرخ الخامس والعشرون من كانون الثاني 2011 لليوم الأول من انطلاقة ثورة التغيير الديمقراطي في مصر، وربما في العالم العربي، وستأخذ مكانها المرموق في تاريخ العالم ثورة شعب طفح به الكيل من معاناة الذل والخوف والفقر بعد عقود طويلة من حكم استبدادي، أغرقه في التهميش والحرمان فخلع خوفه ونزل إلى الشارع بغية إعادة الأمور إلى نصابها، وفرض نفسه طرفاً في العملية السياسية ومشاركاً في تقرير مصير بلده ما يجري في بر مصر إعلان عن عودة فاعل تاريخي اسمه الشعب إلى قلب المعادلة وهذا ما تشير إليه بإلحاح بارز اليافطات المرفوعة في المدن المصرية “الشعب يريد…”
تحرك الشارع المصري بإلهام من الشرارة التونسية وكان التحرك شعبياً وليس نخبوياً إذ لم يكن للأحزاب السياسية والمعارضة يد في تحريكها فالشعوب التي منحت دعمها لمشاريع الحكم، وتحملت كثيراً من نتائج سياساته، وصبرت طويلاً على وهن النخب وإخفاقها، هي نفسها اليوم التي تستعيد ثقتها بنفسها، وتسحبها من الحاكمين، معلنة جدارة الأجيال الشابة بانتزاع حقوقها ومباشرة مسؤولياتها في قيادة بلدها وصنع المستقبل تشهد على ذلك سرعة انتقال الصوت الاحتجاجي من الشباب إلى عامة الشعب، ومن الموضع المعاشي الاقتصادي والاجتماعي إلى الموضع السياسي حيث قضية الحريات وقضايا الوطن بدأ الصوت بشعار “خبز – حرية – عدالة اجتماعية”، وانتهى إلى “الشعب يريد إسقاط النظام”، وقد فعل…
فاجأ الحدث المصري الجميع حكاماً ومحكومين، حتى أولئك المعنيين والمهتمين على الساحة الدولية كانت مفاجأة سارة للشعوب، وتبعث الأمل ومفاجأة مؤرقة للحكام العرب، وغير سارة لبعض الجهات في أوروبا وأمريكا، ومقلقة بل مخيفة لإسرائيل مما يثبت أن القلق على الوجود والمصير والمستقبل، ورغبة الرد على المهانة اللاحقة بالمواطن هو المحرك الأساس للفعل وأن حركة الشعوب المنطلقة من ضمائر الناس ومعاناتهم، يصعب التنبؤ بها وبنتائجها وهذا هو الحال في جميع البلدان العربية، وليس في مصر وحدها ولا بد من ملاحظة وجود العربدة الإسرائيلية وانتهاك السيادة للأوطان والتلاعب بمصيرها ونهب ثرواتها في خلفية القطيعة بين السلطات العربية وشعوبها، وفي قلب دوافع التغيير المنشود، بهدف استعادة إرادة الشعوب وكرامتها المهدورة وحقوقها المسلوبة
ليس الحدث المصري حدثاً محلياً بأي حال إنه حدث عربي بامتياز تشهد على ذلك الحقائق الجيوسياسية والتاريخية والثقافية للمنطقة فمن طين مصر نشأت التيارات السياسية الكبرى في الوطن العربي، ومن نيلها شربت ثقافة التنوير والفنون العصرية والصحافة الحرة، وعلى أرضها نشأت مشاريع النهضة الحديثة فمصر رافعة الأمة، عندما تنهض، لا يستطيع أحد أن يبقى نائماً وإذا كبت، أرخت بظلال الركود والهوان على المنطقة بكاملها وهذا مبعث الحفاوة الشعبية العربية بثورة مصر وخوف الحكام العرب من تداعياتها وهو ما يفسر أيضاً اهتمام العالم أجمع بالحدث، وما أثاره من قلق وارتباك في الأوساط الدولية المعنية بالمنطقة، وخوف لدى أصحاب مشاريع الهيمنة والاختراق للوضع العربي، الذين استغلوا حضور مصر الباهت وغيابها عن ساحة الفعل، وضعف دورها خلال المرحلة الماضية وعلى رأسهم إسرائيل
فيما يجري بمصر دروس بليغة لمن له عين ترى وأذن تسمع يأتي في أولها، أن الأحكام العرفية والدعم الدولي وأكثر من مليون ونصف من رجال الأمن لم يشفعوا للنظام عندما كسر الشعب حاجز الخوف، ولم يمكنوا مبارك من الاحتفاظ بالسلطة وأن الدولة البوليسية مهما أظهرت من سطوتها، لا تنجو من الانهيار عندما يقرر الشعب ذلك “فلا يبقى للديكتاتور غير حرسه الامبراطوري” وثانيها، أن تحطيم الأحزاب السياسية واضطهاد المعارضة لا يحول دون تقدم عوامل التغيير ونضوجها فها هو الخطر يأتي الأنظمة من الشعب، من مأمنها المفترض الذي اعتبرته خائفاً وعاجزاً، وأن رشوة الشعب بتقديمات محدودة وتنازلات وهمية لم يعد يخدع أحداً وثالثها، أن السياسة لم تعد احترافاً، تختص به القوى والاحزاب فها هي الهتافات والشعارات والتصريحات للثوار المصريين تشي بأن الجيل العربي الشاب المستقل وغير المنتمي يعي كل متطلبات السياسة من خطابها إلى وسائلها إلى إجراءاتها فلم ترتفع راية خاصة ولا شعار فئوي، حتى بعد مشاركة الأحزاب في النشاطات الميدانية فقد بقي الجميع تحت سقف الوطنية المصرية وهو ما يبعث على الثقة، ويشير إلى سقوط الرهانات الخاطئة للأنظمة وتوجاهاتها وقراءتها غير المطابقة للوقائع رابعها، أن محاولة الأنظمة لمواجهة الشارع المعارض الذي ينشد التغيير بحركة مقابلة من أزلامها وزبانيتها تهتف للنظام سرعان ما تبوء بالفشل، كما حدث في مصر ورغم شكلها العنيف والهمجي والقاسي، لم يجن النظام من ورائها إلا خيبة محلية وفضيحة إعلامية وسياسية على الصعيد الخارجي وأثبتت التحركات السلمية العزلاء – رغم التضحيات الجسام – قدرتها على تحقيق الأهداف خامسها، أن جميع أساليب خداع الشعب وطرق الالتفاف على مطالبه باتت مكشوفة فالهدف واضح ومحدد: بناء دولة وطنية ديمقراطية حديثة، تحقق سيادة الشعب، وتقوم على مبدأ المواطنة، وتحفظ الحياة الدستورية وسيادة القانون، وتحترم الحريات العامة وحقوق الإنسان وهذا يعني بكلمة واحدة التغيير
إلى عصر الحرية من جديد
سيذكر العرب في قادم أيامهم الانتفاضة التونسية والثورة المصرية بكثير من الاحترام والتقدير والاعتراف بالجميل فانهيار الاستبداد هناك وانتصار الديمقراطية، يحمل تباشير انهياره في كل مكان من الأرض العربية وانتصار الديمقراطية فيها أيضاً وسيكون لهما تأثير واضح على التحركات المشابهة الجارية في البلدان العربية الأخرى والتي ستجري وقد بدأت تباشير هذه التفاعلات تأتي من الجزائر واليمن والسودان وغيرها من الدول العربية وواهم من يعتقد أن بلاده تبقى في منأى عن تسونامي الحرية الذي انطلق من تونس، واكتسى عباءته العربية في مصر وهذا ما يؤهلنا كعرب دولاً وشعوباً وأمة للعودة إلى مسار التاريخ وعصر الحرية والديمقراطية وهنا لابد من الإضاءة على الحقائق التي كشفت عنها تحركات الشعبين التونسي والمصري، وسطرتها في الأدب السياسي لهذه المرحلة:
– سقوط فرضية العنف والانفلات الأمني والفوضى التي يمكن أن تترافق مع عملية التغيير فما حصل من هذا القبيل كان هامشياً ومن صنع السلطة فسقط بذلك الخيار الذي يطرحه الاستبداد لبقائه وهو: الاستقرار أو الفوضى، وأخلى مكانه لخيار آخر هو: التغيير أو الخراب لأن استمرار الوضع على ما هو عليه لا يؤول إلى غير ذلك.
– سقوط مقولة إن الشارع لا يتحرك إلا بوجود قيادات الأحزاب وزعماء العشائر وأصحاب المقامات الدينية والوجوه الاجتماعية فقد انتفض الشارع بطاقة الشباب، ويقدم قيادات جديدة ويرفعها.
– سقوط فزاعة التخويف من التيار الإسلامي الذي طالما رفعته الأنظمة في وجه معارضيها لإسكاتهم، وفي وجه العالم الخارجي لابتزازه “إما نحن وإما التطرف الإسلامي” فها هو القسم الأعظم من الإسلاميين يتماهى مع حركة الشعب في حراك وطني من أجل دولة مدنية ديمقراطية.
– سقوط تهمة التدخلات الخارجية، والتعامل مع الغرب وإسرائيل لكل تحرك اجتماعي أو مطلب سياسي تغييري يقوم به الشعب فقد أظهرت وقائع الشهرين الماضيين أن الدول الغربية ليست مشغولة بقضايا الشعوب بل بمصالحها، ولا يهمها انتصار الديمقراطية في بلادنا. وها هو موشيه أرينز أحد قادة العدو يعلن أن”السلام يصنع مع المستبدين”.
– سقوط فكرة التغيير القادم من الأعلى التي يروج لها البعض، على اعتبار معارضة النظام هامشية ونخبوية ولا عمق لها فقد أظهرت الوقائع أن الشعب بقضه وقضيضه معارض للنظام، حتى مساحات واسعة من حزبه وحلفائه والأوساط التي يعتبرها مؤيدة له فمعارضة الاستبداد هي الحقيقة الأصلب، وليس موالاته.
وبعد.. ها هي عملية التغيير الديمقراطي في المنطقة قد بدأت وها هي الشعوب تصحح مسيرة الأوطان من جديد، وتنجز أجنداتها الخاصة بيد أبنائها ولمصلحتهم والمطر الهاطل على أرض تونس ومصر، لابد أن ينعش التراب السوري أيضاًفالتغيير الوطني الديمقراطي في بلادنا حاجة إنقاذية مثلما هو في بقية البلدان العربية بل أكثر إلحاحاً وهو على جدول أعمال الشعب والمعارضة الديمقراطية منذ زمن.
إننا نتوجه لجميع أبناء شعبنا السوري على اختلاف انتماءتهم، وحيثما كانت مواقعهم في النظام أو المعارضة، ولجميع القوى والأحزاب والتيارات السياسية والثقافية والفكرية والمنظمات النقابية بضرورة الإصغاء إلى صوت الشباب والهدير المكبوت لغضب الشعب وإرادته بالتغيير من أجل الاستجابة لنداء التاريخ، وتسهيل عبور سورية إلى التغيير الديمقراطي دون آلام وهزات وصراعات جانبية، والمشاركة به كل من موقعه وباتجاه واحد هو تحقيق إرادة الشعب ومصلحة الوطن.
ونحن في حزب الشعب الديمقراطي السوري نؤكد من جديد كما أكدنا دائماً على أهمية الوحدة الوطنية في هذه المرحلة أكثر من أي وقت مضى وندعو كافة القوى والأحزاب إلى ضرورة بحث مهمات ومتوجبات هذه المرحلة الحساسة للخروج من حالة اليأس والإحباط، وإهمال التناقضات الثانوية من أجل ملاقاة حركة الشباب وتطلعات شعبنا نحو التغيير.
إن صيغة الحكم المستمرة في سورية حكم عليها التاريخ وانتهت وها هو عصر جديد ينفتح أمام صيغة الدولة المدنية الديمقراطية القائمة على الخيار الشعبي ومبدأ المواطنة المتساوية، وترتكز على مجموعة من الضوابط والتوازنات الدستورية والقانونية التي تؤمن الاستقرار والمحاسبة، وتضمن عدم الانجرار إلى أي شكل من أشكال العنف والاستبعاد والانتقام .
فهل من الحكمة والواقعية أن تستمر السلطة في معاندة التاريخ والاستمرار في المعاناة؟! فالتغيير قادم قادم.
تحية لأرواح شهداء الثورة والحرية في تونس ومصر، ولكل من ساهم في هذا الانتصار.
تحية لمن يشارك في صنع التغيير وتحية لكل من يضع يداً في هذه المسيرة لدفعها إلى الأمام فإنه يضع يداً بيضاء في مستقبل سورية وحياة شعبها.
افتتاحية جريدة الرأي التابعة لحزب الشعب الديمقراطي السوري بتاريخ 18 شباط/ فبراير 2011 قبل انطلاق الثورة السورية، وتتضمن إشادة بثورات الربيع العربي ودعوة السوريين إلى المشاركة في التغيير.
المعلومات الأساسية
تاريخ الصدور
2011/02/18
اللغة
العربيةنوع الوثيقة
بيان سياسي
البلد المستهدف
سوريةنوع المصدر
مصدر أصلي
كود الذاكرة السورية
SMI/A200/989559
العنوان الأصلي للوثيقة
عام التغيير العربي، عام انتصار الديمقراطية
شخصيات مرتبطة
كيانات متعلقة
لايوجد معلومات حالية
يوميات مرتبطة
لايوجد معلومات حالية