تجربة الغوطة الشرقية تحت الحصار، المجتمع المقاوم وصنع البدائل
صيغة الشهادة:
مدة المقطع: 00:36:23
دخلنا عام 2013، عام الحصار والمأسسة والحرب حقيقةً، وتحدثنا كيف بدأت تتوحد قطاعات العمل وبدأ الطرح لإدارة مدنية.
واقع الحصار كان يلقي بثقله في كل تفاصيل حياتنا، ونحن ككوادر أول أمر كنا نعاني منه أننا أحد المحاصرين الجياع، ودخلنا الحصار واستنفدنا المخزون وأكلنا علف الحيوانات بعد أن تمّ طحنه وخبزه، وأكلناه ووجدناه جيدًا أمام اللاشيء، وبدأنا نرى الحالات المأساوية للجوع، وبدأنا نرى طالب المدرسة الذي تضع له والدته ورق الملفوف عليه رشة زعتر، وبدأنا نرى شيئًا يُباع في السوق على أساس أنه برغل ولكنه مجروش من ماذا؟ لا نعرف محتوياته، نشتريه ونحمد الله أننا نجده، وفي بعض الأحيان "ينخبص" (يكون شديد النضج) وأحيانًا لا ينضج، والحقيقة نحن لا نعرف ماذا نأكل. وبدأنا نسمع أن العائلة تقسم أفرادها إلى ورديتين: بعضهم يأكل صباحًا والآخر يأكل مساءً، وبدأنا نسمع من الكتائب أن الشباب المرابطين على النقاط (نقاط الجبهة) ليس لديهم سوى 5 كيلو برغل سيقومون بسلقهم وتوزيعهم عليهم في "طاسة"، [وهكذا كان] إطعام الفرد الذي يحمل البارودة ويسهر طوال الليل مرابطًا على نقطة للاقتحام، وهذا كان مستوى الغذاء في حالة الحرب.
بدأ وزن الناس ينقص، وتجربة الحصار إذا أردنا التكلم عنها بشكل بانورامي في المجتمع فقد كانت مرعبة، وبدأت من الحرمان من الخدمات، ولم يعد لدي تلك "الحنفية" التي أفتحها لينزل منها الماء، ولم يعد لدي إمكانية تشغيل مضخة وحدة المياه القديمة التي كانت [متاحة] خلال أيام البلدية، وبدأت المجالس المدنية تحفر الآبار البدائية القديمة الموجودة في ذاكرتنا وفيها الحبل والدلو لتعبئة الماء، وبات الاستحمام بحد ذاته عبئًا، فتخيل العائلة كم دلو ماء تحتاج لسحبها من بئر الحارة وإيصالها للبيت، وبعدها عليك إيقاد الحطب لتسخين الماء حتى تستطيع العائلة أن تستحم.
عاش المجتمع حالة بؤس حقيقي، وأنا كطبيب مثلاً أفحص المرضى وأكشف على جسم [المريض]، فبدأت أرى أثر ذلك حتى على مستوى النظافة الشخصية، فالمريض الذي كنت أراه عادةً بملابسه الداخلية النظيفة البيضاء بدأت أراه بوضع آخر، وأنا نفسي كنت أحمل همّ الاستحمام بسبب الطلوع والنزول وتعبئة الخزان وتسخين الماء حتى أتمكن من الاستحمام والحمد لله، وبعد الحمام أغسل ثيابي، وعدنا إلى "الطشت" (وعاء الغسيل)، وأصبحت "نكتة" حينها أن الكل أصبح مثل نانسي عجرم عندما تغسل في الطبق على يدها، وفي الحقيقة بدأت تخلق طريقة حياة لم نكن نتخيل أنفسنا في يوم من الأيام أن نعيشها، فإذا استيقظت صباحاً وأردت أن أشرب القهوة وتوفّر لدي بقايا البنّ أو إذا استطعت أن أحصل على البنّ يكون مشروع شرب القهوة هو بحد ذاته مشقة حيث نقوم بتكسير الحطب وإشعال [النار] التي لا تلبث أن تنطفئ (...) ليجهز فنجان القهوة. ربة المنزل أو المرأة التي كنا نراها مثال النعومة والنظافة والأناقة، أصبحت هذه المرأة منذ الصباح تنهض وتركض لتعبئة دلو الماء وتضع يديها في الحطب والفحم.
كانت حياة بؤس في الحقيقة، وتجربة الغوطة تحت الحصار هي تجربة جداً بائسة، وكل أهالي الغوطة عانوا، وقلة قليلة الذين كانوا مستفيدين من الأزمة وهم لا ينطبق عليهم [هذا الكلام]، أما عموم المجتمع في الغوطة كله عانى من الجوع ونقصت أوزاننا وكنا نرى الناس بملابسهم كمن يستعير لباس والده، وبدأنا نرى هبوط الوزن السريع عند الناس. وبدأنا نرى كأطباء أن طرفي العمر من كبار السن والأطفال، هؤلاء عندما تكون أجسامهم منهكة من الجوع، بدأنا نرى الوفيات من أبسط الأمراض العادية التي يقاومها الجسم عادةً، فمن غير المعقول أن يصاب أحدهم بالكريب ثم يصاب بذات الرئة ويموت، ولكنه يُصاب على جسم منهك. وبدأنا نرى حتى الجرحى، الجريح المصاب بقصف هاون أو قصف طائرة يأتي وجسمه منهك وليس هناك إمكانية تغذية على الأقل حتى يستطيع أن يرمم مرضه أو إصابته، وفعلاً بدأنا ندخل في الحلقة المفرغة، وبدأ الحصار يطبق وأصبح هاجسًا وواقعًا نعيشه كلنا بمختلف المناحي. وهكذا نسينا [الأمر العادي بـ] أن نكبس الزر (مفتاح الكهرباء) فينير الضوء، وبدأنا نلجأ أولًا للشمع إلى أن نفد، وبعدها كان هناك مخازن الغليسيرين، واخترعوا الموقد البدائي وهو عبارة عن "مطربان" (علبة زجاجية) بداخله غليسيرين وفتيل وثقب في الغطاء ويوقد ويضعوه في قفص أو منصب، ومن يستطيع أن يحصل على هذا الغليسيرين الموجود ببعض المستودعات لأهداف صناعية وسعره غالٍ، ولكن أن تحصل عليه يعني أنه قد أصبح لديك قدرة صنع الشاي والقهوة على هذا الموقد، أما في العموم لا يوجد. وعشنا فترة على الشمع، ثم دخلنا في قصة البطارية لإنارة المنازل، والموبايل الذي ينتهي شحنه، وبدأنا نرى ظاهرة أن شخصًا يركب الدراجة الهوائية لتشغيل الدينامو وتأتي الناس لتضع الهاتف عنده كي يشحن خلال ساعتين، فيكون الشخص قد صنع دارة ويضع الدراجة الهوائية على منصب، ويحرك العجلات بجهد عضلي لتوليد الطاقة وتشغيل الدينامو حتى يشحن الموبايل ويأخذ أجرة الشحن. وبدأت الناس تبحث عن موارد رزق من جهة، وفي الوقت نفسه يوجد متطلبات حياتية يجب تأمينها، وأنا هنا أعود وأقول إنه فعلاً "الحاجة أم الاختراع"، وصيغة المجتمع المقاوم (...)، ومجتمع الغوطة ليس صغيراً من ألف وألفين ولا حتى 10 آلاف ولا 100 ألف، وإنما مجتمع دخل الحصار بحوالي مليون نسمة، ومرّ بهذه الظروف، وبدأ يتغلب على صعوبات الحصار. وهنا بدأ التوجه إلى الزراعة، ولم تبقَ بقعة في الغوطة لم تُزرع، وكان نمط الزراعة في الغوطة ونظام المزارع لم يكن للغاية الإنتاجية، وكثير من أراضي الغوطة لم تكن للغاية الإنتاجية، ولمتكن أكثر من مزرعة للغاية الجمالية وبعض أشجار الفواكه ومسبح، وهنا [اختلفت] الأولويات، أصبح من الواجب زراعة شيء إنتاجي، ومحاصيل الأمن الغذائي من حبوب وقمح وشعير والذرة، وهنا أصبح لدينا كلنا القليل من ثقافة الزراعة: فإذا زُرع الشعير نستطيع الاستفادة منه كمرعى للحيوانات من جهة، كما يمكن الاستفادة منه في الموسمين القادمين، والذرة وكنا قد دخلنا إلى الحصار في موسم [زراعة] الذرة، فزرعناها وقلنا: لنجرب خبز الذرة، جربناه وكانت عملية صعبة جدًا، وأنا أذكر أننا أقمنا مشروعًا على مستوى البلدة، بحيث زرعنا الذرة وجمعناها وتمّ تيبيسها وطحنها، وفي النهاية تمكّنت من الحصول على 3 كيلو طحين ذرة، وجربنا عجن الكمية، وأنا كنت قد تعلمت كيف أخبز وأرقّ العجين بواسطة الشوبك ووضعه على الصاج، وتحترق أيدينا ونتسخ بسبب "الشحوار" (الرماد الأسود)، وفي النهاية نحصل على خبز شكله كالخبز وأحيانًا يكون مختلفًا، ولكن المهم أن نجد شيئاً نأكله، فالجوع كافر. كانت لدينا تجربة صعبة مع خبز الذرة، فعجين الذرة لا يمتد، ثم اخترعوا طريقة لعجنه مثل"القطايف" (نوع من الحلويات) وثم يمتد وهو شبه سائل، وأصبح الأمر بمثابة ثقافة مجتمع، وطبعاً قبل الذرة أكلنا خبز العلف وخبز الصويا، وكان خبز الصويا عقوبة، فالصويا عبارة عن بروتين معقد مع دسم وتسبّب بحالات إرباك معوي وإقياء، ولكن بالرغم من ذلك فمن كان يحصل على الصويا يعتبر نفسه أنه والحمد لله وجد شيئاً يأكله. وأنا أحد الأشخاص جربت خبز الصويا وجربت حليب الصويا، وجربت أن أصنع من حليب الصويا جبنة الصويا، فقد كنا نحتاج للطعام، وكلمة الجوع هي كلمة نسبية بينما الجوع المطلق وأن تجوع ولا تجد ما تأكله فهو ما عاشته الغوطة وكل المجتمع تقريبًا.
في حالات الجوع أصبح همّ الفرد أن يؤمّن أسرته، وهنا بدأت تظهر بعض الفتاوى، وأنا كنت أراها محقة، بمعنى أنه إذا كان هناك منزل مغلق بجانبك وقد أغلقه صاحبه وهو خارج الغوطة وخارج الحصار، فبعض المشايخ قال إنه يجوز للشخص الدخول إليه وجمع المواد الغذائية الموجودة لسدّ الجوع، وبالتالي ظهرت هكذا قصص من تلك البوابة (سدّ الجوع)، ثم بعد ذلك بدأت حركة النزوح الجماعي حيث تسقط منطقة وتُدمّر أخرى، وبدأنا نبحث عن بيوت، يعني منزل فارغ ومغلق بينما هناك عائلة تنام في الطريق أيضًا هذا لا يجوز. كل هذه الأعباء حصلت، وكانت بحاجة إلى رؤية وجهة تقوم على إدارتها، فمن هنا أنا أقول إن واقع الحصار فرض على الجميع مستوى من النضج والتفكير الجمعي وخلاصته أنه لا بدّ من توحيد الغوطة والعمل المدني والعسكري، لماذا؟ مثلاً على الشق العسكري كانت معركة المطاحن، ودرجت حينها مقولة الخبز المغمّس بالدم، هذا الطحين الذي تمكّن الناس من سحبه، حقيقةً أنا شاهدت أكياس طحين لدى أحدهم وآثار الدم عليها، وهذا دم شهيد أو جريح كان قد ذهب ليجلب الطحين، هذه المعركة التي تمّ فتحها في الشهر السابع على ما أعتقد (وقعت أحداث المعركة بين 29تموز/ يوليو و2 آب/ أغسطس 2013 – المحرر). وفي الشهر 12 (كانون الأول/ ديسمبر 2013) اجتمعت فصائل الغوطة الكبيرة مع بعضها، وفتحت معركة لكسر الحصار أيضاً سمّوها معركة "الله أعلى وأجلّ" (بدأت المرحلة الأولى من المعركة في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر، والمرحلة الثانية في 10 كانون الأول ديسمبر – المحرر)، وكانت الغاية منها أننا لن نتمكّن من كسر الحصار في اتجاه مدينة دمشق، الأمر الذي يتطلب معركة كبيرة، فلنكسره باتجاه تحرير العتيبة وفتح طريق البادية حتى يصبح هناك إمكانية لتهريب المواد الغذائية من هناك. سير هذه المعركة أيضًا فرض شيئًا جديدًا بخصوص حتمية العمل على وحدة الفصائل،وفي يوم واحد من المعركة وصلوا إلى العتيبة، واستبشر الناس بفتح طريق العتيبة، إذن كسرنا الحصار. وبعد أخذ ورد استردها النظام فجأةً، وهنا دخلنا في لوم الفصائل لبعضها البعض، و[اتهام بعضهم البعض] بالانسحاب من نقاطهم، وبأن لواء الإسلام قد أخلى نقطته و[هو يقول:] أنتم لم تقوموا بحمايتي. وبدأنا ندخل في هذا الموضوع الذي يحتّم في النهاية أنه لابد من أن يكون هذا العمل والبندقية والجيش الحر موحَّدًا حتى عندما يخوضون معارك يخوضونها على أساس إمكانات كبيرة وخطة واحدة، ولا ندخل في مشكلة [الاتهامات المتبادلة] بالانسحاب، وفي وقتها كانت النتائج مخيبة للأمل في معركة "الله أعلى وأجلّ"، ولم تستطع أن تكسر الحصار، وسبقتها معركة "المطاحن"، وتلك المعارك دارت في العام 2013، واستطاعت أن تؤمّن حيزًا من الوقت لأيام، وتمكّنت الناس من سحب ما يمكن من [الطحين]، ولكن هذا سدّ الحاجة لفترة محدودة.
وبالتوازي مع كل هذا أصبح التوجه إلى الزراعة، زراعة الأراضي ومحاصيل الأمن الغذائي، وهناك مساحات تمّ زرعها بالشمندر العلفي والبطاطا لتأمين وسدّ جزء من الاحتياجات، والغوطة لا تستطيع أن تنتج احتياجاتها محليًا، ولكن أصبح الميل حينها لزراعة الأراضي، كما أصبح لدينا ثقافة الاقتصاد المنزلي، فبدأنا نرى أنه حتى في البيت وفي أحواض الزراعة، وأنا أحد الأشخاص زرعت البصل الأخضر في طبق "الدشّ" (القمر الصناعي)، والآخر أصبح بترك بيض الدجاج حتى يفقس حتى تكثر الصيصان، وانتشرت تربية الأرانب، وبدأت تخلق فكرة البحث عن البديل. وتمّ إقامة بعض المشاريع بخصوص تربية الأرانب والدواجن، ولكن التجربة التي نجحت على النطاق العام هي تجربة الاقتصاد المنزلي، وعدنا لطرق حفظ المواد الغذائية مثل التيبيس وأوعية الزجاج المضغوط، وانتهى شيء اسمه كهرباء وبراد وثلاجة وتبريد، كل هذه الأمور انتهت، وعدنا لأيام "السفر برلك" من تعبئة الماء بالدلو والزراعة وتأمين المونة بطريقة التيبيس مثل الفول والبندورة والباذنجان.
وبهذه الطريقة بدأت تتنامى صيغة صنع البدائل والمقاومة من أجل الحياة والبقاء، وبالتوازي مع هذا الأمر كان لدينا أزمة طاقة التي يعتمد عليها كل شيء، بدءًا من الطبخ في البيت ونهايةً بتشغيل مرفق حيوي له علاقة بحياة الناس مثل مشفى أو مدرسة، فأنت بحاجة للطاقة. وهنا بدأت التجارب الإبداعية في الغوطة عبر صنع البدائل، فقد كنا نعتمد في الطبخ والتدفئة والتسخين على الحطب، ولكن بدأنا نرى الحفر الفنية حيث تُحفَر الحفرة ويُحفظ فيها روث الحيوانات فتطلق غاز الميثان بعملية التخمّر، ويتم إحاطتها بخيمة بلاستيكية حتى تمتص أشعة الشمس لتعطي الحرارة للتخمر، ولها طريقة توصيلات [معينة]، ونجحت التجربة حتى إن البعض أوصل منها أنبوبًا إلى جهاز الطبخ وأصبح بمقدوره أن يشعل النار فيه، وتطورت التجربة حتى أصبح إقلاع مولدة الكهرباء على البنزين قليلًا ثم يحوّلها إلى هذا الغاز. ونحن في نقطة طبية كانت المولدة يكفيها هذا الغاز، وكان إقلاعها في البداية على البنزين ثم تكمل مولدة الكهرباء عملها على غاز الميثان هذا، ولكن كانت العلة في هذا النوع من بدائل الطاقة أننا في حالة حرب فتكفي شظية من مكان بعيد وتثقب هذه الخيمة البلاستيكية لشلّ المشروع، ولذلك بقي انتشار هذا المشروع محصورًا على النطاق الفردي أو الشخصي أو العائلة مع وضع احتياطات وخيمة محدودة تعطي طاقة محدودة للعائلة. وبالمقابل بدأنا نرى الشباب الصناعيين مثل "الطورنجيين" (العاملين في مهنة الخراطة) وغيرهم وهم يصممون عنفة على ساقية لتوليد الكهرباء، وبدأنا نرى هذه الظواهر على الأبنية العالية حتى يستفيدوا من الهواء في الشتاء لتوليد الطاقة، إضافة إلى [فكرة] الدراجة الهوائية والطاقة العضلية، ثم بدأنا نرى القفزة الأكبر وهي صهر المواد والنفايات البلاستيكية، ولها طريقة وهي صهر وتقطير مثل جهاز الكيمياء الإنبيق (جهاز تقطير السوائل) التي كنا نستخدمها في المدرسة وتمرير البخار، وتصميمها بسيط جدًا، ويُستخرج منها في القطفة الأولى بنزين، وفي الثانية مازوت، وفي الثالثة ديزل، وإلى جانب هذه العملية كان يخرج غازًا لا نعرف تركيبه، ووجدوا طريقة لتعبئته في جرة الغاز وضغطه لتستوعب 2 كيلو من هذا الغاز، فهذه تجربة مجتمع مقاوم للحقيقة، وانتشر المازوت البلاستيكي والبنزين البلاستيكي، وكثير من آلياتنا بدأت تعمل على هذا الأساس.
مع بداية تأسيس المجلس المدني وخدمات البلدية كنا نحسب أن جمع القمامة في البلدة إذا أردنا تشغيل "الباجر" (الحفارة) فهي تحتاج إلى "تنكة" (وعاء من الصفيح) ونصف من المازوت، فنجمع من بعضنا البعض لتأمين "تنكة" أو "تنكة" ونصف من المازوت، ونشغّل [الحفارة] بحسب الكمية التي وفّرناها. وعندما توفّر المازوت البلاستيكي انفرجنا قليلًا، فقد أصبحت الكلفة أقل، والآليات الكبيرة الثقيلة كانت تعمل عليه، ثم بعد ذلك هذا المازوت البلاستيكي والبنزين البلاستيكي تسبّب بأعطال في الأجهزة التي نعمل بها، ولكننا دائماً عندما نصل لمحكّ ونتعرض لمشكلة نجد مخًا إبداعيًا من ناس صناعيين وجدوا له الحلول. وهكذا انتشرت ثقافة بدائل الطاقة التي هي صهر البلاستيك، وهذه القصة خلقت نوعًا من المهن، وأنا التقيت بأحد الشباب وقال لي: أنا أخرج منذ الصباح من منزلي وأنا أحمل كيسًا كبيرًا وأمشي في الطرقات باحثًا عن علبة بلاستيك مرمية، أو فردة "شحاطة" مرمية والتي لم نعد نجدها، فإذا وجدتها آخذها لأحرقها في مدفأة الحطب في منزلي، وكانت قد نفدت ثروة الأشجار والحطب والأنقاض، وكان الناس يستخدمون أي شيء يحترق ويعطي طاقة في منازلهم.
على صعيد المدفأة المنزلية، ونحن كلنا نعرف شكل مدفأة الحطب العادية البسيطة، ولكن في ظروف الحصار يجب أن يكون في البيت مصدر طاقة وحيد ليس فقط للتدفئة، وإنما أيضًا للطهي وتسخين الماء والشاي والقهوة، فبدأنا نرى تصميمات من المواقد تلبي هذه الحاجة، مثلًا موقد الحطب وهو عبارة عن طبقتين: طبقة عالية بمثابة غرفة احتراق كبيرة وبدايته غرفة احتراق صغيرة ثم الكبيرة ويوضع فيها الحطب الكبير، وهذه تستطيع الطبخ عليها، وأما "بوري" (أنبوب) الموقد فقد فصّلوا له خزانًا يتم تركيبه وملئه بالمياه، فأصبحت تطبخ وتغلي الشاي وتقوم بالتدفئة وتسخين الماء للاستحمام والغايات المنزلية، وأصبحنا نسميها"المفاعل النووي"، وأنا في منزلي كان لدي هذا "المفاعل النووي" الذي يأخذ [مساحة] ربع غرفة، ثم أسميناه "مفاعل الطاقة الحطبية"، فرغم جو الحصار والحرب والجوع حتى روح "النكتة" (الفكاهة) لم تغب، بل على العكس ظروف الحصار خلقت الكثير (...)، والمجتمع للحقيقة لم يتقبّل فقط الحصار، وإنما تقبّله وتحداه وأصبح يتهكم على حصاره. وعلى سبيل المثال، وأنا هنا أُكبر الصناعيين، فعلى الجانب الطبي مثلاً كنا نعاني عجزًا كبيرًا ليس فقط بالمواد والأدوية، وإنما أيضًا بمواد تثبيت الكسور والمثبتات الخارجية والصفائح، وكان لدينا بعض المواد الخام لبعض معامل الأدوية التي كانت قائمة في الغوطة قبل الثورة، ولكن بفعل همجية النظام [خرجت عن الخدمة]، وكان لدينا معمل تاميكو في الغوطة، فالمواد الخام وُجد من يصنّعها،وأصبحوا يصنّعون بعض المواد الطبية الدوائية من المواد الخام. وبعد ذلك عندما وُجدت الأنفاق وأصبحت إمكانية التهريب من برزة [متاحة] أيضاً، بدأ تهريب بعض المواد الخام للتصنيع، وعلى سبيل المثال نحن لدينا حاجة مستمرة للشاش الطبي الجاهز المعقم، ففي النهاية تم العمل على معامل إنتاج الشاش طالما تأمّن الخيط المطلوب، وأصبحنا نقصّه ونعقمه بعد ذلك بطرقنا.
كلما كان يواجهنا تحدٍّ، تواجهنا طريقة إبداعية في الاعتماد على الذات لنتجاوز هذا التحدي، وعلى سبيل المثال مثبتات الكسور الخارجية تُصنع من معدن الكروميوم برقم لا أذكره، وكذلك سماكة ومقاسات [محددة]، ثم بعد ذلك أصبح الصناعيون و"الطورنجيون" (العاملون في مهنة الخراطة) يستخدمون نفس المعدن من الورشات الموجودة ويصنّعون المثبت الخارجي للعمليات العظمية والذي بات يعتمد على التصنيع المحلي في الغوطة. وعلى صعيد زجاجات تفجير الصدر، تحت ضغط الحصار والقلّة (العوز)، وشكل زجاجة تفجير الصدر مثل "المطربان" (الوعاء الزجاجي) ولها وصلة، وأصبحنا نعيد غسيلها وتعقيمها بينما هي تُستخدم لمرة واحدة، وحتى إذا أعدنا غسيلها وتعقيمها فهي لا تكفي الإصابات فنحن في حالة حرب ودائماً هناك إصابات، ثم لجأنا بعد ذلك إلى محالّ "العصرونية" (محالّ الأدوات المنزلية) وجلبنا "المطربانات" (أوعية زجاجية) التي [نستخدمها] عادةً في بيوتنا للزيتون والمخللات، وقمنا بثقبها ووضعنا لها وصلة بما يحاكي [زجاجات تفجير الصدر]، وأصبحنا نصنّعها محلياً ونعقمها ونستخدمها. في النهاية نحن لدينا احتياجات ضرورية، وبما أن لدينا القدرة لخلق البدائل، فكل هذه الأمور عملنا عليها.
في فترة من الفترات، كان يأتينا تهريب من مرحلة ما قبل الحصار في العمل الطبي أكياس الدم التي تُستخدم لحفظ الدم للتبرع به، ويوجد فيها مادة السيترات (سيترات الصوديوم) لتحفظ الدم من التخثر وتحافظ عليه، فكان لدينا من هذه الأكياس لسحب الدم من المتبرعين ونقلها للمصابين وقت الضرورة، ولها طريقة حفظ، حتى هذا الكيس لم يعد متوفرًا، وبدأنا نلجأ إلى أكياس السيروم الفارغة ونضع مادة مميعة مثل "الهيبارين" بحيث نسحب الدم إلى هذا الكيس مع عدم القدرة على حفظه لفترة طويلة، فعندما تقع مجزرة وتبدأ الإسعافات إلى مشفى أو نقطة طبية يصدر نداء للتبرع بالدم عبر إذاعة الجامع، وعندها يصبح القطف والنقل، وهكذا وصلنا إلى هذه المرحلة.
وصلنا لمرحلة أن تطورت المستلزمات التي تُصنع محليًا، حيث بدأت بالمثبتات الخارجية، وفي النهاية في عام 2017 وصلنا إلى أن البعض استطاع تصنيع صفائح التثبيت العظمي، وأصبح لدينا كمّ كبير من المصابين ببتور، وكان يوجد الكثير من المبادرات المحلية، وأنا حضرت ولاحقت أحد الصناعيين بمراحل تصنيع الطرف الصناعي. المراحل بدأت من "ألف باء" بالإمكانات المحلية، والتجارب كانت تتحدى من أجل البقاء.
تحت وقع الحصار وكلما اشتدت الاحتياجات كان يتفاعل على الطرف الآخر طرق إبداعية لتلبية المتطلبات، وفي [المجال] الطبي تحدثنا عن التصنيع الطبي، ووصلنا لدرجة [تتعلق باستهلاك] السيرومات، وأكبر استهلاك للسيرومات وأكبر حاجة لها في حالات الحروب والكوارث، وكل المصابين لديهم نزوف وبحاجة فتح وريد وتغذية وريدية ويتعرضون لعمليات، فكان يوجد استنزاف هائل للسيرومات وحاجة مستمرة لها وصل إلى حدّ أن بعض معامل الأدوية التي كانت موجودة في الغوطة عملت أيضًا على تصنيع السيروم محلياً بالاستفادة من الإمكانيات التقنية الموجودة فيها، وفعلًا تمّ تصنيع السيروم محليًا، وهو ليس بالمواصفات العالمية، ولذلك بعد تصنيعه تحددت استطباباته، فهذا السيروم المصنّع محليًا نحصر استطباباته بالحالات التالية:مثلًا نحتاج في أثناء العمل الجراحي إلى غسيل ساحة العمل الجراحي وغسيل البطن عندما يكون هناك إصابة بشظايا ومواد برازية ومحتويات أمعاء، وكنا نحتاج دائماً للغسيل والتنظيف، فكنا نستعمل مثلًا هذه السيرومات للغسيل ونستعملها للشباب الذين هم بصحة كاملة وليس لديهم مشاكل كلوية أو استقلابية عامة، لأن عدم جودة هذا السيروم يمكن أن تؤثر على مرضه، ومثلًا لم يُستخدم [هذا السيروم] للأطفال وكبار السن، وتبقى هي تجربة اضطررنا لها في الغوطة لسدّ العجز.
أفكار ومبادرات التغلب على الحصار كانت متعددة المجالات، ولم تقف عند مجال محدد، وعلى سبيل المثال حتى في المجال الطبي، في بدايات العمل الطبي الثوري كنا نعلّم وندرب الكوادر تدريبًا محليًا، وفي كل مشفى أو نقطة طبية مثلًا يعلّم الأطباء الناس مبادئ التمريض وكيفية فتح وريد وخياطة جرح وكيف يجب أن يتعامل مع الكسر وطريقة التثبيت وطريقة النقل، كل هذه الأمور، وحتى من يتطور ويتعلم بشكل جيد أصبح يساعد في العمليات، وهناك شباب تطوروا وأصبحنا نعتبرهم فعلًا من أبناء المهنة الطبية، ولكن مع هذا كنا نقول إنه يوجد شيء اسمه التعليم. وفي هذا المجال تطورت التجربة الطبية من تدريب ناشطين متطوعين إلى وجود معاهد تدرّس المناهج وعليها مفاضلة ما بعد البكالوريا لسنتين وبتخصصات سواءٌ صيدلة أو تخدير أو تمريض عام أو مخبر، وهكذا بدأت الغوطة تجربتها الطبية والمدنية عمومًا، وبدأ الاعتماد على الذات من الصفر بالمتاح، وكانت تجربة تحدٍّ ومقاومة وتجربة البقاء. كان يوجد تجارب إبداعية في كل هذه المجالات، وأنا إذا أردت الآن أن أعدّد الأشياء التي تم ابتكارها أو تصنيعها محليًا للتغلب على العجز القائم في كل مجالات الحياة قد لا أنتهي حتى الغد، ولدرجة أننا وصلنا أن مياه الشرب.. مياه الآبار (...)، ففي الغوطة عندما توقفت الآبار، مياهها النقية المفلترة الصالحة للشرب لم تعد موجودة،وقصف البنية التحتية يسبّب التسرب، والأهم أن الغوطة كانت تسقي، ومع بدايات إرهاصات الحصار والحاجة للزراعة استطاع الشباب تحويل الصرف الصحي إلى مجاري الأنهار أو السواقي، فاعتمدت كل زراعة الغوطة على هذا الأمر، وهو من جهة أنقذنا إنقاذ الحياة حيث استطعنا أن نزرع، ولكن من جهة أخرى أيضاً لها تلوثها البيئي.
مثلاً في المدارس كان هناك ظاهرة نراها، أولًا المدارس من ناحية القصف والاستهداف والحرب المستمرة لم تكن آمنة، وأصبحت منظومة التعليم تعتمد على الأقبية، والكوادر التدريسية المؤهلة والباقية أيضًا غير كافية، فأصبحت ترفدها كوادر الحاصلين على شهادة الثانوي أو من لديه تجربة تعليم سابقة كي يُسدّ العجز، وأصبحنا نرى الكثير من المبادرات التطوعية و[من يبادر ويقول:] أنا مستعد لتدريس هذه المادة لأجل طلابنا، وهذه المبادرة بتنا نراها لدى الكثير من المعلمين، مثلما كنا نرى أن من لديه مواد غذائية فائضة يعطي جاره، ومن يزرع أرضه [ويقول:] من يريد أن يأكل فليأتِ ويأكل. في النهاية خُلقت ثقافة أن الكل جائع والكل بحاجة للطعام، وبالتأكيد لكل أزمة تجارها ومستثمروها ومحتكروها، ولكن عندما نتكلم عن سمة عامة لمجتمع فمجتمعنا قد قدّم لبعضه البعض، والمقتدر ماليًا كان يهتم بجاره وأخيه، وكانت ثقافة عامة في المجتمع أنه نحن إذا لم نأكل اليوم فليست مشكلة، ولكن المرابطين في الجبهات يجب أن يأكلوا، وأنا في الكثير من المواقف وشخصيًا كنت أراهم يبحثون عن شيء ما ليطبخوا البرغل أو أي شيء ليطعموا المرابطين على نقاط المواجهة مع النظام فقد كانت لهم الأولوية.
معلومات الشهادة
تاريخ المقابلة
2019/07/12
الموضوع الرئیس
حصار الغوطة الشرقيةواقع الغوطة الشرقية عام 2013كود الشهادة
SMI/OH/52-19/
أجرى المقابلة
سهير الأتاسي
مكان المقابلة
اسطنبول
التصنيف
مدني
المجال الزمني
2013
updatedAt
2024/09/20
المنطقة الجغرافية
محافظة ريف دمشق-الغوطة الشرقيةشخصيات وردت في الشهادة
لايوجد معلومات حالية
كيانات وردت في الشهادة
الجيش السوري الحر