الذاكرة السورية هي ملك لكل السوريين. يستند عملنا إلى المعايير العلمية، وينبغي أن تكون المعلومات دقيقة وموثوقة، وألّا تكتسي أيّ صبغة أيديولوجية. أرسلوا إلينا تعليقاتكم لإثراء المحتوى.
ملاحظة: الشهادات المنشورة تمثل القسم الذي اكتمل العمل عليه، سيتم استكمال نشر الأجزاء المتبقية من الشهادات خلال الفترة اللاحقة.

واقع الغوطة قبل تنفيذ اتفاق التهجير، والتهجير القسري إلى الشمال

صيغة الشهادة:

فيديو
نصوص الشهادات

مدة المقطع:

في يوم 22 [آذار/ مارس 2018] أُعلن أنه سيتم الخروج ليس من المليحة، وإنما من عربين، وأُعلن وقف إطلاق النار. وكانت الترتيبات: خروج المقاتلين مع السلاح الفردي بإشراف الشرطة العسكرية الروسية، تسهيلات الخروج مع المدنيين، وأصبحت القصة عبارة عن تلك التفاصيل، وفعلًا في يوم 22، عندما أُعلن أنه تم الاتفاق، توقف إطلاق النار. والمشهد المريع المبكي أنه أخيرًا خرج الناس من تحت الأرض، وهنا تذكرت الآية الكريمة التي تتحدث عن يوم القيامة، وكيف يخرج الناس من القبور "فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون"، ونحن الأحياء خرجنا بنفس هذا المنظر. جميع الناس خرجوا من تحت الأرض بوجوه شاحبة نحيلة متعبة مرهقة، خرجوا إلى ردم وتراب ودمار، وهنا لم تبق قيمة لأي شيء، فإذا كان لديك مخزونًا لمقاومة الأزمة، فماذا سيفعل هذا المخزون؟ وإذا كان لديك استعداداتك لأمر، فالأمر هو أننا سنخرج، والناس يجب أن يتحضروا لعملية الخروج. 

وبالتوازي مع مهلة الـ 24 ساعة في هذه العملية [العسكرية المقترحة من "فيلق الرحمن" - المحرر]، وعلمت بذلك من الأشخاص الذين كانوا فيها، كان هناك حوالي 1000 مقاتل، وكانت هناك عربة "BMB "أُدخلت في النفق، وتلك المفخخة التي ستخرج في البداية بالصدمة الأولى حتى تتم العملية، وطبعًا إذا تمت هذه العملية فمن الممكن أن تغير شيئًا، ولكن حدث عطل في "BMB " داخل النفق، وأُجّل العمل 24 ساعة. وتأجيل العمل 24 ساعة جعل حتى المقاتلين الذي كانوا بحماسهم للقيام بالعمل في الصدمة الأولى، يتناقص عددهم، وبعد الـ 24 ساعة أصبح العدد محدودًا فأُلغيت العملية، وبالتوازي معها كان يتصاعد القصف والدمار بشكل مطبق.

وبدأت تنتشر ظاهرة، فقد كنا موجودين في زملكا، ولكن بدأ يظهر التمايز، فلم نعد نستطيع أن نميز العدو من الصديق، وخصوصًا أن هذه الخلايا الكامنة "الضفادع" كانت موجودة مع الناس في كل مكان. وفي الحقيقة لم يعد التقسيم مهمًا، يعني مثل السرطان وخلايا الانزراعات الورمية التي تنتشر، كان هناك جزء محتل، وبالتوازي حرستا انتهى أمرها، وبدأ الناس يخرجون منها بالباصات، وأول من خرج هم جماعة حرستا و[حركة] أحرار [الشام]، وفي هذا الوقت كانت مفاوضاتنا تمضي بين أن نحافظ ونمدد 24 ساعة، وهذا الذي حدث. 

وفي دوما، كانوا يتحدثون عن "بيعة الموت"، والأمور كانت في النزع الأخير، وكنت أقرأ ذلك بالتشبيه الطبي أنني أمام حالة مرضية ميؤوس منها وانتشار ورمي، والحقيقة أنني أستطيع بشكل كبير أن أصف ما كان في داخلنا، فقد كنا نعتبر أننا ذاهبون إلى الموت، وصحيح أننا سنخرج أحياء، ولكن هذه غوطتنا تركناها، وهذا الدمار والشهداء والردم، وفي الوقت ذاته توجد حاضنة يجب أن نحفظها. وفي الحقيقة حدث شكل من أشكال التيه لدى الناس العاديين البسطاء، ما بين أن يخرجوا أو ألا يخرجوا، فمن جهة كان هناك سيل من التطمينات للناس حتى يستطيعوا إبقاء الكوادر، ويوجد شيء اسمه قرار اللحظة الأخيرة لدى البعض، وبعض الناس تاهوا. 

وصلنا إلى توقيع الاتفاق [مع الروس]، وطبعًا هناك بعض التفاصيل قبل أن يحدث هذا الاتفاق. مع مرحلة ظهور "الضفادع"، وهذا [الأمر] لابد من أن يكون ثابتًا، صحيحٌ أنه كانت هناك هجمة شرسة من النظام أولًا، وكانت "الضفادع" الكامنة قد قفزت من مستنقعاتها وبدأت [العمل] بشكل منظم، ولكن توجد نقطتان يجب أن نسلط عليهما الضوء قبل أن ندخل بتفاصيل تنفيذ الاتفاق. أولًا: تجزئة قرار وقف إطلاق النار لهدنة 5 ساعات، وكيف نجح الروسي بذلك، وبغطاء دولي وصمت دولي. وثانيًا: النظام بلاأخلاقيته المعتادة، فبعض الأشخاص المدنيين ذهبوا باتجاه المعبر الآمن، وباتجاه المناطق التي أقام بها الروس مراكز إيواء، فالناس على بساطتهم وفي قرار اللحظة الأخيرة وفي اللحظات الأخيرة كان لديهم تيه كبير في هذا الموضوع، وإذ بالنظام يقوم باستغلال الناس الذين ذهبوا إلى مراكز الإيواء التي أعلن عنها الروسي، ويستخدمهم دروعًا بشرية، ويردهم إلى المناطق التي لم يحتلها بعد، ويسيّر آلياته وراءهم؛ حتى لا تحدث هناك مقاومة له. 

 عندما نقول إن النظام قد تمكّن من أن يحتل أجزاء من الغوطة، فهو لم يحتلها بالمهارة العسكرية، ولم يحتلها بسبب عدم وجود روح مقاومة، وإنما أحد الأساليب التي ساعدته في الاحتلال، أنه وضع الكتل البشرية التي صدّقت بأن هناك مراكز إيواء آمنة لهم، وصدقت أن الهدنة التي أعلن عنها الروسي تستطيع أن تصل بهم إلى مراكز الإيواء، ولكنها وجدت أن النظام قد أعادها ووضعها درعًا بشريًا أمامه؛ حتى لا تكون هناك أي مقاومة لتقدمه. هكذا كانت المؤامرة محبوكة كونيًا، الأمر الذي ساهم في تيه الناس. 

 على مستوى "الضفادع" أو حركة "أوقفوا الحرب، وكفى، نريد مصالحة"، كانت هناك لجنة مركزية منظمة على مستوى الغوطة، وجاءني ذات يوم أحد الزملاء وقال لي: "كنت عند بسام ضفدع، وأسسنا مجلسًا"، فقلت له: "مجلس ماذا؟! هل هو مجلس للصلاة على النبي أم مجلس محلي؟". وأنا طبعًا كانت لدي معلومات بأنهم يجتمعون، وكنا نقوم بالرصد، فكل شخص في وسطه الاجتماعي [كان يرصد] كيف تحدث مثل هذه القصص. قال لي: "هو مجلس لإيقاف الحرب"، فقلت له: "أخبرني، من معك؟"، قال: "فلان"، ثم أخرج هاتفه، فقلت له: "افتحه لي، أين المجموعة؟"، دخل إلى المجموعة، وقرأت أسماء أعضاء المجموعة. كانوا 17 شخصًا، وهؤلاء من مختلف المناطق، ومن كل بلدة يوجد شخص، وهم من كل الغوطة، أي من دوما ومن قطاع الغوطة، وبسام ضفدع وسيف خبية على رأسها، فالمجموعة واضحة. قلت له حينها: "إذا كنت تقول لي، وأنت خائف وتريد الحماية"؛ لأنه كان مرتبكًا، ويبدو أنه مشترك معهم، ولكنه يريد أن يضمن هنا وهناك، وهو أحد الأشخاص الذين دخلوا عبر رشقة ما بعد انتظام دعم مؤسسات الثورة، فقلت له: "جيد، أعطني هذه الصور والمحادثات، وأنت وضعك سيكون بخير".

تلك كانت العوامل التي أوصلتنا في النهاية إلى أن النظام استطاع أن يقضم أجزاء من الغوطة، والروسي بطيرانه والراجمات التي لم تكن تتوقف كان يهدم الأجزاء الأخرى من الغوطة، وهذا الذي أوصلنا في النهاية إلى الإنذار [الروسي] الأخير: "سأحطم ما تبقى، وسيسقط مدنيون". 

عندما أُعلن عن وقف إطلاق النار في 22 آذار/ مارس من عام 2018، وخرج الناس، بدأ الكلام بأنه اعتبارًا من الغد ستبدأ الباصات (باصات التهجير – المحرر) بالقدوم. وطبعًا المقاتلون والمدنيون وعائلاتهم، ومن يريد أن يبقى أو يصدق الوعود أو تاه، فهؤلاء بقوا، وهنا كانت خيارات اللحظة الأخيرة، وبعض الناس تاهوا فيها، وبعد ذلك للأسف دفعوا ثمنها.

على مدى 4 أو 5 أيام كانت تأتي الباصات يوميًا، وتخرج من عربين طبعًا، وتوجد آليات تنظيم للموضوع، سواءٌ للعسكريين أو المدنيين. وطبعًا حدثت بعض الفوضى، فمثلًا: [هؤلاء يقولون]: "هذا الباص لنا"، [والآخرون يقولون]: "بل إنه لنا"، وحدث اشتباكان بين "[حركة] أحرار [الشام]" و"جبهة النصرة"، وكان هناك جرحى، وقُتل بعض الناس في أحد تلك الاشتباكات بسبب التنازع على الباصات.  

الموضوع كان بخطه العام الرئيسي أن انطلاق الباصات سيكون من عربين (من نقطة عربين) بالقرب من ساحة البانوراما في مدخل دمشق، وأنه من الممكن للباصات أن تأتي إلى هنا، وبإمكانها أن تدخل من هناك إلى البلدات، مثلًا: إلى عربين أو إلى زملكا أو(...)، ويركب الناس الذين يكونون قد رتبوا أمورهم في الباص، فيحملهم، وتتجمع القافلة كاملة، وعندما تتجمع القافلة بأكملها تخرج. 

طبعًا الروسي كان قد قرر أن تتمّ كل العملية بإشراف الشرطة العسكرية الروسية، ووضع تعهدًا بعدم تدخّل قوات النظام في الموضوع، هكذا تم الاتفاق. والروسي كان قد تعهد بتسهيلات، حيث يخرج أي شخص مع سلاحه الفردي ومعه مشطان (مشطان من الطلقات) ومعه مقتنياته وأغراضه الشخصية.

عملية صعود الناس بالباص، هذه القصة اكتنفها قول الناس [في أنفسهم]: "طالما أنني سأخرج لا محالة، إذن لأخرج فورًا، وأبدأ بترتيب أموري، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، فموضوع الخروج كان يشبه يوم الكيماوي (الهجوم الكيميائي على الغوطة الشرقية في 21 آب/ أغسطس 2013 – المحرر) عندما تزاحمنا على الموت، وهنا أيضًا أثناء الخروج كنا نتزاحم على الموت، فنحن جميعًا نريد أن نخرج وننتهي؛ لأنه مثل الشر الذي لابد منه، ونريده أن يمضي. أنت تريد أن تقصّ رأسي، فلتقصه وننتهي، لا أريد أن أبقى واقفًا وأنا أتفرج، فلم يكن أمرًا مفرحًا أننا سنخرج من الغوطة، ولكن كل ما في الأمر أن هذه اللحظات القاسية الصعبة وخروج الروح من الجسد، لا أريد أن أبقى 4 أو 5 أيام وأنا روحي تخرج من جسدي، فلتخرج مرة واحدة وأنتهي، فلتقصّ لي رأسي وتخرجني، ففي الحقيقة نحن خرجنا بهذه النفسية.  

 بالنسبة لنا كنا نعتبر أن الكوادر الطبية آخر من سيخرج، أو بالأحرى تُخلي جرحاها الموجودين لديها وتخرج وراءهم، أو تخرج مع آخر دفعة جرحى. كان لدينا أيضًا التوجه بأننا نحن الذين كانت لدينا بعض الصفات القيادية الاعتبارية من المفترض ألا نخرج أول الناس؛ لأن المفروض علينا أن نؤمن الناس، ونخرج في النهاية، فما يحدث ليحدث لي أنا، ولا يمكن أن أنجو، ويحدث شيء للآخرين، فهذا القرار أيضًا كنا متوافقين عليه في القيادة. والأمر الثالث عملية تنظيم الخروج، ولتتخيل شكل الذين يخرجون من الموت، ويريدون الذهاب إلى الموت، فالجميع أصبح يستعجل الموت ويستعجل الخروج، الأمر الذي خلق القليل من الإرباك والتزاحم على الباصات. في المحصلة الجميع ركب الباص، والجميع تهجر.  

 فيما يتعلق بنا، سبق وقلنا إننا جعلنا الأفضلية لإخلاء جرحانا، وكان من المفترض أن يتم التنسيق على أن تأتي سيارات الهلال الأحمر، ولكن سيارات الهلال الأحمر عددها محدود ونحن لدينا كم هائل من الجرحى؛ لذلك أصبحنا نُخرج الجرحى حتى بباصات التهجير، وكانت سيارات إسعاف الهلال للحالات النوعية، مثلًا: الإصابات الكبيرة أو إذا كان هناك عجز أو من يحتاج إلى منفسة، وكانت العملية شاقة جدًا. بدأنا نخلي مرضانا على مدى 4 أو 5 أيام، وبدأنا نشعر بتخلخل الوضع، فقد أصبح الوضع ضمن البلدات التي لازلنا فيها والتي تعتبر تحت سيطرتنا (...)، بدأنا نشعر بتخلخل، ولم نعد نعرف هذا الشخص من ذاك، هل هذا من "الضفادع" أم لا؟ تخلل القصة القليل من الاشتباكات المتقطعة بين الجيش الحر والنظام. وخلال هذه الفترة سمعنا أن العتاد الثقيل لدى الجيش الحر أنزلوه إلى الأنفاق وفجروه، وردموه تحت الأنفاق، وسمعنا أنهم أخرجوا بعض المضادات معهم؛ لذلك أقول إنه من الممكن أن تكون هناك بعض التسهيلات من الروس. 

 في تجربتي الشخصية في الثورة كانت هناك تواريخ فارقة ومحفورة، وقد تركت بصمة في حياتي وفي نفسيتي وقناعتي وكل شيء، بدأت في 18 آذار / مارس من عام 2011 حيث كانت أول مظاهرة وأول اعتقال في بداية الثورة، مرورًا بـ 21 آب/ أغسطس من عام 2013 يوم القيامة الأول الذي عاشته الغوطة في مجزرة الكيميائي، ومرورًا ب 18 آذار/ مارس من عام 2018 يوم تلقي "إنذار غورو" ويوم صدور حكم الإعدام (يقصد الشاهد قرار التهجير – المحرر)، ويوم 28 آذار/ مارس يوم تنفيذ حكم الإعدام، وهو يوم خروج الروح من الجسد، ويوم التهجير من الغوطة.

كان يوم 28 [آذار/ مارس 2018] يومًا قاسيًا جدًا، ومنذ الصباح، وقبل ذلك بيوم كنا قد رتبنا أمورنا، وحسمنا خياراتنا، فهذا هو الخيار المتبقي. وكنا نتعاهد بين بعضنا بأننا لن نتوقف، وسنكمل، ولم نكن نعلم ما الذي ينتظرنا، والذي ينتظرنا هو واقع مثل الغوطة، ولكن على مساحة أكبر، فهناك سنكمل المشوار، ونتعاهد ونعمل، والذي بدأناه هنا نكمله هناك، وهناك ستكون معادلة سورية بأكملها، وليست الغوطة فقط، هكذا كنا نتحدث بين بعضنا. كانت الناس تجمع أغراضها، وهناك ظاهرة حيث رأيت الكثير من الشباب خلال فترة الغوطة من الذين كانوا يصدعون رؤوسنا بالشعر الطويل واللحية المنكوشة، وكأنه خرج سهوًا منذ 14 قرنًا إلى القرن الواحد والعشرين، بدأنا نراه يحلق شعره، ويقصر لحيته، ويلبس "الجينز"، ما الذي حصل؟! فإذا به يتهيأ لواقع جديد، أيضًا هذه الظاهرة بدأنا نراها.

بدأنا نودع ذكرياتنا والأماكن، وأصبحنا نتمشى في أماكن الردم والهدم والتراب، ونتوقف، وكنت أملأ عينيّ من هذه المنطقة التي لا أعرف متى سأعود إليها. وكنت تجد الشباب يتصورون صورًا تذكارية أمام بناء مهدم، فلا يوجد شيء ليس مهدمًا، ولكن رغم ذلك هذا البناء المهدم له رمزية أنه جذري، والآن ستخرج الروح من الجسد. وبدأنا نضع عبارات التحدي، مثلًا: "راجعين وحياة ترابك يا غوطة"، ونكتب على الحيطان وفي الخارج وداخل المركز (مركز "إحياء النفس" – الشاهد): "بدك تسقط وبدنا نعيش" و"ثورة"، وملأنا الحيطان بالشعارات [التي تقول] إننا حتى ونحن خارجون، إذا كان [النظام] يظن نفسه أنه منتصر، فليعرف أننا خرجنا بهذه النفسية، نفسية التحدي. و[لسان حالنا يقول له:] أنت لم تكسرنا بالحرب، أنت كسرتنا بهمجية الروسي، كسرتنا بقتل المدني، كسرتنا بتدمير المدن، ولم تكسرنا بالقتال الشريف، ولم تكسرنا بالصراع، لم تكسرنا بالحراك.

كان لدينا مزيج من روح التحدي والإصرار، وفي الوقت ذاته شعور الخذلان والانكسار لم يكن يفارقنا، ففي ليلة الـ 27 و28 [آذار/ مارس] كان الترتيب أننا غدًا سنكون قد انتهينا، وبقي مريضان أو 3 لنحملهم ونخرج معهم، وكان عنوان صمود المنطقة هو المستشفى (مستشفى الكهف – المحرر)، وانتهت الأمور. وفي يوم 28 [آذار/ مارس] صباحًا جاءت الباصات، وجاءت سيارة شاحنة كي تنقلنا؛ وذلك حتى لا نتزاحم مع الناس على اعتبار أن الكوادر مرهقة ومعنا جرحى، فأصبح الترتيب أن يرسلوا لنا مع قيادة "فيلق الرحمن" سيارات شحن تأخذنا من هنا إلى عربين، ثم نركب الباص من عربين، ويحجزون لنا باصاتنا من عربين، فلا نريد أن ندخل ونتقاتل مع أحد، أو يتقاتل معنا أحد، فعلى أي شيء نتقاتل، إنما نحن نتسابق على حبل المشنقة؟!  

 بخصوص موضوع السلاح الشخصي الفردي، وموضوع المقتنيات الشخصية (الهوية وأغراضك وأشياءك)، حتى في هذه [الأمور] كان هناك تفاوت، فأنا بالنسبة لي أحمد الله على أمر واحد، وهو أنه مع اشتداد الحملة نصحني الدكتور أحمد الحر (أحمد البقاعي – المحرر) -ذكره الله بالخير- وقال لي: "خذ شهاداتك وأوراقك ولا تتركها؛ لأن البناء إذا قُصف ستفقدها كلها". وفعلًا أثناء الحملة ذهبت مرة إلى المنزل، وأخذت حقيبتي وفيها شهاداتي وأوراقي الشخصية، وأحضرت معي بدلان من اللباس الداخلي وبنطالًا من "الجينز"، ونزلت، وكانت هذه آخر مرة أذهب فيها إلى البيت.  

آه آه! كانت معي حمالة المفاتيح التي فيها مفتاح غرفة المستشفى ومفتاح غرفة [مركز] "إنقاذ روح "ومفتاح منزلي ومفتاح بوابة الدرج، ومفاتيحي التي لها رمزية انتمائي، طبعًا أنا حريص عليها، وهو شيء مضحك ومبكٍ في الوقت نفسه، ويقولون إن الفلسطينيين قبل عام 1948 كان منهم من يحمل مفتاح داره القديمة التي لم يبقَ منها شيء، وأنا كنت أحمل مفاتيحي، وأحرص على وجودها، وبمجرد أن أمسك حمالة المفاتيح فورًا أتذكر، وأرجع في الماضي، وأذكر أن هذا مفتاح البيت وبهذا المفتاح أدخل إلى المستشفى وإلى هذه الغرفة. 

 خرجت من زملكا ومعي حقيبة أوراقي وألبستي الداخلية وثيابي التي ألبسها ولاب توبي (الحاسوب المحمول)، هذا هو ما خرجت به. حمالة المفاتيح علقت عليها فلاشة (ناقل بيانات) فيها الكثير من الأمور عن عملنا، وهي عزيزة علي، ولدي فلاشة صغيرة وضعتها مع نظارتي و"لاب توبي"، وتلك الأشياء على الأقل فيها شيء يبقى يربطني بتلك الأرض وتلك المرحلة. ومن بين الأغراض التي كانت معي، هناك نصف كيلو طحين شعير سافر معي إلى الشمال، ولم أستطع أن أحضره إلى هنا (أي إلى اسطنبول – المحرر)، وقنينة زعتر وزيت وقنينة دبس البندورة وشطة (فلفل حار)، تلك كانت زوادتي (طعام السفر)، وآخر زوادة كنت أخطط في يوم عمل شاق أن أخبزها، وأن أفتح قنينة الزعتر وأصنع سندويشة زعتر، تلك كانت الزوادة المعتادة في تلك الظروف، وتلك عدة الرحلة أو عدة العمل، وهذا طعامي لليوم. وعندما تهجرنا نسي الشباب قنينة الزعتر ودبس البندورة والشطة، وبقي الطحين في الحقيبة. وعندما فتحتها بعد أن وصلنا، ورأيت الطحين، قلت في نفسي: "كم لهم قيمة معنوية! فهذا من شعير الحصار"، وكنت أقول للشباب: "سأخبز حفنة منها في كل مناسبة سعيدة، وأصنع خبزة واحدة، ونتقاسمها؛ لأن فيها طعم ورائحة الغوطة".  

خرجنا بكل هذه المشاعر، ووصلنا إلى ساحة عربين، ونزلنا مرهقين، وكان السائقون سوريين من جماعة النظام، والباصات جاءت من عند النظام. تذكرت يوم دخولنا إلى المفاوضات، وتذكرت عربين؛ لأنني بعد 7 سنوات لأول مرة أتحدث مع عسكر النظام، وكان ذلك في يوم 18آذار/ مارس (يوم التفاوض)، وهؤلاء كانوا يقفون على الحواجز عندما يريدون أن يسمحوا لنا بالمرور للمفاوضات، فكنت ألمس عندهم نفسية وكانوا يقولون: "ألا يكفي؟! لقد تعبنا، ألم نتعب؟! أما آن لهذا الحال أن ينتهي؟!"، رغم أن الطيران كان لصالحهم، وكان التدمير عندنا والموت عندنا، ولكنهم كانوا يقولون: "كفى".

عندما وصلنا إلى عربين، كان هناك عساكر للنظام يقفون هنا وهناك لتنظيم الباصات، فدار بعض الكلام بيننا وبينهم. أذكر أن أحد الشباب تناقش معهم وقال: "كيف ترى مستقبل سورية؟"، وكان الدكتور أحمد الحر، فأجاب: "سورية بدون الأسد، أي سورية أولًا، وإذا كانت سورية أولًا، فإن سورية بدون الأسد". والعساكر كان بينهم شخصان، للأسف سأسميهما طائفيًا: أحدهما علوي والآخر لكنته تدل على أنه حلبي، فقال العلوي: "صحيح، البشر جميعهم يموتون، ولكن سورية تبقى سورية"، وقال الثاني: "إذا أصبحت سورية بدون الأسد سأنتحر". ونحن كنا نقول لهم: "سنعود"، وكان الكلام بهذا الشكل وهذا المنحى، وكان بعضهم يقول: "ألا يكفينا حربًا، نحن أولاد بلد واحد، وإذا وضعنا يدًا بيد وطردنا الأجانب (...)"، البعض منهم تكلم هكذا، فهل هذا غسيل دماغ بحيث يملؤون رؤوسهم بذلك حتى يبرروا لهم [ما يحدث]؟! حدثت تلك الجدالات.

الأهم أننا عندما خرجنا بالباصات، كان هناك هذا الباص، وكنا نصعد مع أغراضنا، ومسموح لنا حمل سلاح فردي والأغراض الشخصية، وكان [العسكري] يقول: "فقط أرني [ماذا تحمل]"، وفي بعض الأحيان حاول أحد عساكر النظام الاستفزاز، وبمجرد أن يصرخ بصوته أحد عناصر الشرطة العسكرية الروسية كانوا ينزلون، وتلك إحدى القصص، فقد كانت الكلمة الأولى والأخيرة [للروسي]، ومهما قال عنصر النظام كان الروسي هو الذي يضمن الأمر.

 في النهاية بدأ التجمع من الصباح حتى بعد العصر عند الساعة السادسة أو السابعة إلى أن اكتملت القافلة التي ستمشي، وكانت تمشي أمام القافلة سيارات، أي رتل فيه شرطة عسكرية روسية وأشخاص من النظام، ولها مسار طويل عريض. وقبل يوم كنا ننبه ونقول فيما بيننا: "لا تشربوا الماء، هؤلاء لن يقفوا، ولن يكون هناك مجال للدخول إلى الحمام، فالقافلة التي ذهبت البارحة مشت 12 أو 13 ساعة بدون توقف"، فكان الجميع يحتاط لهذا الأمر.

انطلقت القافلة، وعندما جلسنا في الباصات كنا ننظر إلى يمين الطريق ويساره، فنرى الردم والدمار وعلامات الموت المخيم هنا، بينما على الطرف الآخر كنا نرى الأبنية والطرق والسيارات والحياة الطبيعية، بمعنى أن مجرد إلقاء نظرة بين اليمين واليسار تجد المشهدين [مختلفين].

من الأحاديث التي دارت مع عسكر النظام عندما كان يقول: "ألا يكفي؟! علينا أن نتصالح، ويكفينا حرب"، كنا نجيب: "فقط انظر يمينًا ويسارًا، هذا من الذي هدمه؟ كل هدم هناك تحته أرواح أُزهقت ومدنيون"، وفي ذلك الوقت كان الذي يهمنا توجيه رسالة تحدٍ وأننا ما زلنا على [درب] الثورة، ومازلنا نؤمن بحتمية سقوط الأسد، رغم أننا ذاهبون إلى حكم إعدامنا، وهو ركوب الباص والتهجير.  

اكتملت القافلة، وكانت قافلة طويلة عريضة، وصعد الركاب، وعند تشغيل محرك الباص للانطلاق، فإن تلك هي اللحظات التي لا يمكن للشخص وصف شعوره فيها، وهي أنني بعد الآن لن أرى هذا المكان مرة ثانية. عندما دار محرك الباص، وبدأ يتحرك، ونحن نأخذ آخر نفس فيه رائحة الغوطة وفيه رائحة البلد، كانت لحظات قاسية جدًا، تصورنا وكأنها لحظة إعدامنا ونحن نقوم بتصويرها، وانتهى الأمر، وانطلق الباص، وأصبحت الغوطة خلفنا.

بعد ذلك وصلنا إلى مناطق النظام، وبدأنا نرى الحياة، فهناك أشخاص يأكلون ويشربون، وناس في الطرقات، [وبدأنا نرى] البندورة والبرتقال والليمون، يا الله، هذا ليمون! ومحلات الشاورما والحلويات، وقلنا: "حسبي الله ونعم الوكيل، فنحن هذا هو طريقنا". 

 مشينا وفق خط سير القافلة، ومرّت القافلة من مساكن برزة، وذهبت باتجاه التل، ثم أخذت الطريق الدولي، وهو طريق دمشق حمص، وهناك قبل حمص توجد تحويلة، فمررنا بالساحل. وفي الساحل دخلنا إلى طرطوس، وفي إحدى ساحات طرطوس كان الشبيحة قد اجتمعوا، وكذلك الأهالي، وأصبحوا يرمون علينا -على الباصات- أحذية وحجارة، وهنا في الحقيقة كانوا مصرين على أن يقطعوا أي جسر وصل بيننا وبينهم، أي جسر يجعلنا نشعر بأنهم أولاد بلد، وأننا نحن وهم ننتمي إلى نفس البلد. وبعض شبابنا كانوا قد جهزوا بعض الشعارات، وواجهوا هذا الأمر، ورفعوا تلك الشعارات من الزجاج (نوافذ الباصات – المحرر)، مثل: "ثورة"، وهناك طرفة كتبها أحد الشباب: " إلى أرامل طرطوس لدينا من الرجال ما يكفي" ووضعها في وجههم. وبعض الباصات توقفت، ونزل الشباب منها مسلحين، وهنا تدخل الروس فورًا، وضبطوا الموقف، وأبعدوا الناس.  

خلاصة الوضع أن القصة كانت مدروسة وممنهجة، وربما كانت معروفة ساعة وصولنا إلى ساحات طرطوس مثلًا، حتى اجتمع هؤلاء الناس كي يلتقوا بالناس الذين فقدوا وطنهم بهذه الطريقة من اللقاء.

أثناء الطريق تعطل الباص الذي كنا نركبه، وتوقف في منطقة الساحل، توقف على جانب الطريق، ومباشرة طوقتنا سيارات النظام من نوع "ستيشن"، ونحن وجدنا أن هذه الوقفة فرج لنا وفرصة حتى ننزل لقضاء حاجة، وحتى الناس وهم يقضون حاجتهم كانوا مطوقين بالسلاح، كان أمرًا مضحكًا ومبكيًا في الوقت نفسه، فقد كان لديهم (أي لدى عناصر النظام – المحرر) رعب، ثم جاء شخص منهم وقال: "من فضلكم لا تبتعدوا أكثر من ذلك؛ لأنه في الأعلى يوجد قناصة". وهكذا كان الوضع.

 

 بعد 12 أو 13 ساعة دخلنا إلى [المناطق] المحررة (قلعة المضيق)، وعند مدخل قلعة المضيق صعد شخص، وألقى كلمات الترحيب "بأهلنا المهجرين من الغوطة"، و[قال]: "أنتم الآن أصبحتم في المحرر، ومساحة المحرر كبيرة"، الأمر الذي أعطانا شعور اطمئنان أننا أخيرًا وصلنا إلى الشيء الذي يشبهنا، ولكن لفت نظرنا أننا في داخل المحرر لم نشاهد علم الثورة، رأيناه فقط في منطقة أو منطقتين، بينما شاهدنا رايات "[جبهة] النصرة" وغيرها.

طبعًا كان هناك استقبال شعبي، وهناك أهالي خصوصًا المناطق التي كانت ثائرة مبكرًا في إدلب، مثل: أريحا، ومعرة النعمان، وكفرنبل، وكان هناك الكثير من التفاني بتقديم شيء مثل المأوى، والاحتفاء بالمهجرين من أهالي الغوطة الذين صمدوا وتحاصروا وجاعوا، وفي الحقيقة كان هذا النفس واضحًا. وبالنسبة لنا أيضًا كان هناك من استقبلنا، وأخذنا على باتبو وهي منطقة في ريف حلب الغربي، فمجموعتنا أخذتها منظمة سراج، حيث استقبلنا شخص منهم، وأخذنا إلى منازل للإقامة فيها، كانوا قد استأجروها لنا.

وصلنا، وجلبوا لنا عدّة النزوح، وهي الوسادة والبطانية والطراحة (فراش من الإسفنج)، وبدأنا نشعر أننا قد تحولنا إلى نازح "أبو طراحة" (يأخذها أينما ذهب) ووسادة وبطانية، فنمنا أول ليلة وكل شخص معه طراحته ووسادته. كان الألم يعتصرنا، ويخرج من عيوننا، وكان الألم واضحًا لم يخبئ نفسه، وكان بعض الأهالي يقرؤون هذا الشيء، ويحاولون أن يبددوه.  

هناك موقف لشخص اسمه أبو عمر في باتبو، وهو موقف لا أنساه، فقد كان إنسانيًا جدًا، وهو بائع فروج مقابل المنزل الذي جلسنا فيه، وبمجرد أننا وصلنا وجلسنا، وكان واضحًا علينا الإرهاق والإنهاك، وكنا ننتظر حتى يجهزوا لنا أغراضنا، قدّم لنا الشاي. وفي اليوم الثاني خرجت صباحًا؛ لأنني أحتاج إلى بطاقة انترنت، واشتريت واحدة، وكنت أقف وأريد أن أتواصل لأَطمئن وأُطمئن، فاقترب مني وقال: "لك خاي، هل شربت القهوة؟"، فقلت له: "لا"، فقام بتحضير القهوة، وشربنا القهوة وجلسنا معًا، وتحدثنا عن الغوطة. وفي اليوم الذي يليه خرجت مبكرًا، فأشار لي بأنه سيقوم بتجهيز القهوة، خجلت وكنت أقف وأنظر، وأقول في نفسي: "أريد أن أشتري شيئًا من عنده، ولكنه لا يبيع سوى الفروج، ولا أريد أن أشتري الفروج من الصباح الباكر"، وكنت أبحث ماذا يبيع؛ لأنه قبل يوم دعاني لضيافته وكذلك اليوم. وكأنه قرأ أفكاري، فقال: " لك خاي أنت أبو شو؟" قلت له: "أنا أبو صلاح"، فقال: "خاي أنا أخوك هنا، إلى ماذا تنظر؟ ماذا تريد أن تشتري؟ وإذا خطر على بالك شيء لتأكله، فقل لي". أخجلني بكرم أخلاقه، وكتبت عنه منشورًا [في وسائل التواصل الاجتماعي]، وقلت: "الحمد لله أن الدنيا لم تخلُ، ومازال هناك أشخاص تبدو واضحة عليهم الإيجابية". وبعد أن انتقلت إلى الدانا، عدت وزرته مرتين، على الرغم من بعد المسافة بيننا، ولكنني كنت أتعمد أن أزوره، وأقول له: "يا أبو عمر، أنت أخي الحلبي"، هكذا كنت أقول له، وكان يقول لي: "أنت أخي الشامي".  

خلاصة الوضع، ونحن في الشمال، وبعد أن وصلنا بيومين أو في اليوم الثاني، هناك أمر ترك أثرًا كبيرًا لدي، طبعًا أهالينا (...)، أنا مثلًا طوال فترة الثورة كنت أعيش بمفردي في الغوطة، وأهلي وعائلتي في مكان آخر. وأكثر أمر رفع لي معنوياتي، وجعلني أفرح وأبكاني، كانت رسالة من ابنتي أرسلتها لي، حيث كان هناك حساب باسم وهمي ومستعار بيني وبينهم، فكتبت لي: "يا بابا، الحمد لله على سلامتك، لا تحزن، نحن فخورون بك". [وأرفقتها ببيت من الشعر]: 

 شرف الوثبة أن ترضي العلا         غلب الواثب أم لم يغلب 

 عندما قرأتها في البداية فرحت بأن ابنتي هكذا كتبت، ثم بكيت، وقلت: "إنهم أحسوا بأي وضع سأكون"، والأهم هي عبارة: "يا بابا لا تحزن، فنحن فخورون بك"، أي أن نَفَسها (...)، و"شرف الوثبة أن ترضي العلا"، ما أجمل هذا البيت! فهذا البيت سمعته قديمًا، ولكن أن ترسله لي ابنتي برسالة كهذه! في الحقيقة كانت تلك أول جرعة دعم معنوي أخذتها في اليوم الثاني من التهجير من ابنتي في رسالتها هذه. كانت ابنتي في السنة الرابعة أو الخامسة في الجامعة، وحتى الآن أتذكرها (أي تلك الرسالة)، وأقول: "الحمد لله".

"راحت السكرة وجاءت الفكرة"، وانتهينا من صدمة التهجير، وصدمة أننا وجدنا أنفسنا نحن الذين كنا في الغوطة وعددنا 400 ألف، وكل كوادر الغوطة والشباب وناشطو الغوطة كانوا دائمًا قريبين من بعضهم ويلتقون، وجدنا أن كل شخص أصبح في جهة، بمعنى أننا كأصدقاء وأبناء منطقة وناشطين وأطباء، بمعنى كيفما فكرت بالأمر ووفق أي تصنيف من تلك التصنيفات، وجدنا أنفسنا قد توزعنا، وكل شخص أصبح في منطقة، وأصبحنا نطمئن على بعضنا، [ونقول لبعضنا]: "الحمد لله على السلامة".  

رأيت الدكتور أحمد الحر، وقلت له: "يا أبو حميد، دعنا نذهب إلى عفرين لنرى كيف الوضع هناك؛ لأن هناك من يقترح ذهاب جماعة الغوطة إلى عفرين، وأنا بصراحة لست مرتاحًا للأمر، وأرى أن هذه القصة فيها شكل من أشكال التوظيف للتغيير الديمغرافي". وفعلًا هو يعرف شبابًا كانوا ناشطين منذ زمن في عفرين، فاتصل بأحدهم من أهالي عفرين، وذهبنا يومًا وليلة. والحقيقة الذي رأيناه في عفرين أنها لم يكن فيها شباب، ورأينا فيها كبارًا في السن وأولادًا، والوضع متشابه، فعفرين قد أعلنوا تحريرها في 18 [آذار/ مارس]، ونحن كانوا قد أعلنوا (المقصود النظام) تحرير غوطتنا في 18 [آذار/ مارس]، ففي نفس الفترة حدث التهجيران.

لم نرَ عينة من الشباب، وهناك تشعر بأن الأهالي واجمون وجافون وغير مرتاحين لنا. مثلًا دخلنا إلى محل، و[قلنا للبائع:] "السلام عليكم"، ولكنه كان ينظر لنا نظرة وكأنه [يقول في نفسه]: "هذا الشخص الشرير الذي جاء ليأخذ مني بلدي ومنزلي". جلسنا بعد ذلك مع أشخاص من الأكراد، وسألناهم وتحدثنا معهم، وفي النهاية خرجنا بانطباع أن قصة [ذهابنا إلى] عفرين هي أمر خاطئ، وهو عبارة عن توظيف، وكما نحن نحزن ولا نقبل بأن يأتي النظام بالإيراني أو اللبناني أو العراقي ويُجلسه في منزلي، أو حتى أن يأتي بمرتزق طائفي حتى لو كان سوريًا ويُجلسه في منزلي، فأنا أيضًا لا أرضى أن أذهب وأجلس في منزل شخص خرج تحت ظروف حرب. ونحن منذ البداية لم نكن متحمسين للفكرة، ولكن عندما ذهبنا ورأينا واقع عفرين، أيقنت أن فكرتي صحيحة، ولم تعد مجرد رأي لدي، بل أصبحت قرارًا أنني لن أدخل في هذه القصة.  

طبعًا عندما خرجنا بسبب التهجير، كانت هناك تسهيلات لدخول أهل الغوطة إلى عفرين ومناطقها، وإغلاق بوجه الآخرين، بمعنى أنه لتأتِ الموجة الأكبر باتجاه عفرين، هذا ما قرأناه. هذا الأمر أضيفه إلى نقاشاتنا وآرائنا السابقة التي كانت قبل التهجير وأثناء الحملة، فمنذ اليوم الذي تحدث فيه أردوغان عن فكرة استضافة أهالي الغوطة، [اعتبرت] أن الأمر هو أمر تغيير أو تهجير، ولكن الذي وجدته أنه ليس تهجيرًا فقط، وإنما هو توظيف التهجير أيضًا. ألا يكفي أنك اقتلعتني من أرضي؟! يا أخي، اقتلعني من أرضي وارمني، ولكن أن تقتلعني من أرضي لتوظفني في أرض الآخرين! هذه مشكلة في الحقيقة، وأنا من الأشخاص الذين أدركوا أن المعادلة هي هكذا.

هناك أشخاص بسطاء ذهبوا على أساس إنهم هناك يعطونهم منزلًا للسكن، وهناك أشخاص ذهبوا من النخب، وكانوا أطباء وكوادر. بالنسبة لقادة الفصائل، مثلًا: "[جبهة] النصرة" ذهبوا إلى معقل "النصرة" في إدلب، بينما "فيلق الرحمن" و"أحرار الشام" ذهبوا إلى مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، و"جيش الإسلام" بعد ذلك ذهب إلى منطقة الباب، المهم أن جميعها مناطق تحت النفوذ التركي.

وجدت أن هناك فلسفات مختلفة، فعلى سبيل المثال لم نرَ حراك شارع، والأمر الأهم الذي واجه الجميع أنه في كثير من المناطق التأجير بالدولار والأسعار مرتفعة، فأجرة منزل في أي منطقة في الشمال تساوي أجرة المنزل التي أدفعها في اسطنبول والدفع بالدولار، هذا الواقع شاهدناه. وعلى الصعيد المعيشي، هناك طعام وشراب وتجارة وانتعاش، والذي رأيناه في الشمال لم نرَ فيه مشاهد تدل على حرب وحصار، ولكن رأينا حواجز أمنية بين كل بلد وبلد، وعندما نتنقل ونأخذ باصًا صغيرًا عليه أن يدفع لهم رسمًا، ويطلبون الهويات، و[يسألون:] "إلى أين أنتم ذاهبون؟ وإلى من تنتمي؟"، هكذا كان الواقع في الشمال، ولكننا في الغوطة لم نكن نعيشه هكذا. كانت هذه هي الصدمة، ونحن كنا نقول للوهلة الأولى: "إن الشمال هو الغوطة الكبيرة"، وعندما كنا نمشي ونرى تلك المسافات، كنا نقول: "هذه مقومات دولة؛ بشر وثوار وأرض، هذه مقومات الدولة البديلة والنموذج البديل الذي نبحث عنه، والذي لديه موارده ولديه إمكانياته"، ولكننا وجدنا واقعًا مختلفًا في الحقيقة.  

بعد ذلك جاءتنا دعوة لحضور مؤتمر طبي، مؤتمر "سامز" في شهر حزيران/ يونيو [2018]، فذهبت إلى هذا المؤتمر في اسطنبول، وبقيت هنا، ولم أعود إلى الشمال، فالغربة تبقى غربة. وعندما هُجّرت وأصبحت في الشمال، فإنني عبارة عن نازح، وهنا اسمي نازح، وهناك مهجر وهنا مهجر، وهناك لا توجد ظروف أمان لا من قبل النظام ولا من قبل الفصائل القائمة، فالوضع الأمني ليس مطمئنًا في المنطقتين. والثورة ليست بقعة جغرافية، وإنما هي رسالة وأدوار وتكامل أدوار، والشيء الذي كنت أستطيع أن أضعه على أرض القضية، الآن أحاول أن أضعه في أي مكان آخر؛ لأنني أصبحت مهجرًا وخارج أرضي.

معلومات الشهادة

تاريخ المقابلة

2019/09/13

الموضوع الرئیس

واقع الغوطة الشرقية عام 2018التهجير القسري

كود الشهادة

SMI/OH/52-52/

رقم المقطع

52

أجرى المقابلة

سهير الأتاسي

مكان المقابلة

اسطنبول

التصنيف

مدني

المجال الزمني

2018

المنطقة الجغرافية

محافظة ريف دمشق-الغوطة الشرقيةمحافظة ريف دمشق-زملكامحافظة ريف دمشق-عربينمحافظة طرطوس-مدينة طرطوسمحافظة إدلب-محافظة إدلبمحافظة حلب-ريف حلب الغربيمحافظة حلب-منطقة عفرين

شخصيات وردت في الشهادة

كيانات وردت في الشهادة

جبهة النصرة

جبهة النصرة

حركة أحرار الشام الإسلامية

حركة أحرار الشام الإسلامية

فيلق الرحمن

فيلق الرحمن

الهلال الأحمر العربي السوري

الهلال الأحمر العربي السوري

الجيش السوري الحر

الجيش السوري الحر

مركز إحياء النفس الطبي

مركز إحياء النفس الطبي

مشفى الكهف في الغوطة الشرقية

مشفى الكهف في الغوطة الشرقية

منظمة السراج للتنمية والرعاية الصحية

منظمة السراج للتنمية والرعاية الصحية

القيادة الثورية في دمشق وريفها

القيادة الثورية في دمشق وريفها

الشهادات المرتبطة