الوضع في مخيم اليرموك بدمشق قبل الثورة
صيغة الشهادة:
مدة المقطع: 00:10:30:01
كان لدينا في المخيم انفتاح على حياة أخرى غير الحياة في الشام، وكانت مختلفة تماماً بطبيعتها وتناقضاتها والنشاط الثقافي الموجود فيها والمستوى الثقافي العالي لسكان المخيم أياً كان عملهم، فكنت أتفاجأ عندما أكون سهراناً عند متولي فيأتي شباب (أصدقاؤه)، يكون قد جاء من عمله في البناء، ويفتحون نقاشاً طويلاً عريضاً عن تاريخ الفصائل ولبنان وفلسطين ورام الله وغزة؛ فكنت أتفاجأ لأن هذا الكلام في الوسط السوري غير موجود، أقصد بذلك الثقافة التي يفرضها المكان، وتفرضها قضيتهم والجغرافيا، ولأن طبيعة حياتهم مكتظة بهذه النقاشات؛ فتتولّد لديهم ثقافة تلقائية تماماً، كما هو الحال في درعا، عندما تسأل أي شخص: متى يزرع القمح أو الحمص؟ هم كانوا ببساطة ممكن أن تسألهم عن المنطقة عن سورية ولبنان وفلسطين والأردن، فيتكلمون، وكانوا يتكلمون كلاماً يُسمَع، وليس كلام الجاهل. بالإضافة إلى ذلك، هم كانوا فصائلاً، فكان المخيم عبارة عن فصائل كثيرة ومتعددة: ما بين "فتح" و"حماس " التي كانت تنشط بشكل جديد في المخيم، وكانت تأخذ قوتها من الضخّ المالي الكبير، وتعطي لأسر الشهداء، وتقوم بفعاليات كبيرة في المخيم، وما بين القيادة العامة المحسوبة على النظام، وما بين الرعيل الأول الذي هو مكتنز بالذاكرة، وهؤلاء هم الشيوعيون الفلسطينيون الذين درسوا في الاتحاد السوفياتي، وهم كانوا كباراً في السن، ومنهم: أبو علي رشيد، ولا أعرف إذا كان لايزال في سورية أم لا، وابن عمه (أبو فراس)، وهؤلاء هم الشيوعيون القدماء الذين يتكلمون عن ذاكرتهم مع مظفر النواب، وعن ذاكرتهم مع فرقة عراقية -نسيت اسمها- فكانوا يحدثونك عن ذاكرة قوية لديهم، مثلاً: عندما اختبأ الشيوعيون العراقيون في المخيم، وكيف حدث الأمر، كانت ذاكرة ممتلئة وتفتقر لها المدن والأرياف السورية. وهذا الكلام لا نسمعه خارج المخيم، قد يُسمع ضمن عوائل، مثلاً: قد يسمع عدنان من أهله تجربة الاتحاد الاشتراكي (تجربة أعمامه في الاتحاد الاشتراكي)، ولكنك في المخيم تسمع تجربة كاملة من جميع الأطراف، وليس من طرف واحد، وليس الاتحاد الاشتراكي هو من يتكلم عن تجربته فقط، فأنت تسمع عن مرحلة. وإضافة إلى ذلك، كان هناك نوع من الحرية الموجودة لديهم، ولم تكن موجودة عندنا نحن السوريين. فكنا نجلس، وأكثر مثال كان يحضر إلى ذاكرتي: سلافة وزوجها متولي، وكلاهما أصدقائي، وكنا نجلس، ونتناقش، وكان أحدهما مع ياسر عرفات ومع موقفه في الاتفاق والآخر ضده، وكانوا يتكلمون مع قياداتهم، مثلاً: كان متولي من الجبهة الشعبية، ليس قيادة عامة، وإنما الجبهة الشعبية -جورج[حبش] (الحكيم)، ويتناقشون مع القيادات، ويقومون بتحريض الشباب (قواعدهم)، فكان متولي أستاذ فلسفة، فيحرّض طلاب المدارس الموجودين ضمن الجبهة الشعبية، ويقول لهم: لا تقبلوا الانتخابات، لا تفعلوا كذا، وقاطعوا الانتخابات، وافعلوا كذا. ولكن هذه الأمور في حياتنا نحن السوريين لم تكن موجودة، كانت صِفراً، فنوعاً ما يتكوّن لديك كسوري، وليس كسوري فقط، وإنما كسوري ريفي، ربما يشعر ابن المدينة السوري بالتفوّق على هذا الواقع في مخيم اليرموك، ويمكن أن يشعر بأنه ليس له علاقة، كما هو الحال عندما كنا في الجامعة، فكان أهل الشام يشعرون بأنه ليس لهم علاقة بانتخابات الهيئة الإدارية، ولكن بالنسبة لنا كنا نشعر بتفوّقهم وبنوع من التفريغ العالي لديهم، فنحن محبوسون فيه ومكبوتون في هذا الجانب.
وفي تلك الفترة، كنا قد وصلنا إلى هذه الحاجة، فأنا عندما ذهبت إلى المخيم، كان هناك نوع من الحرية التي عشناها ما بين 2002 و2009، عشنا الحرية التي هي حرية على المستوى الشخصي وحرية الحب وحرية الخروج والدخول والاعتقاد واللباس، وهذا الأمر قد نكون نوعاً ما محرومين منه في الريف بحكم السيطرة العائلية على جزء من العادات والتقاليد الكبيرة في حياتك. وبعد أن عشناها 7 أو 8 سنوات أصبح هناك جزء من الحاجة، وينبغي أن يكون هناك جزء من الحرية للتنفيس الفكري. وفي المخيم، كانت تدفع للغيرة، أحياناً، وفي تلك الفترة، كانت قد تكوّنت صداقة قوية بيني وبين عدنان، وأحياناً، كنت أفكّر: لماذا لا أنتسب إلى الاتحاد الاشتراكي؟ وأصبح ابن حزب كما أن فلاناً ابن جبهة شعبية، وهذا هو متولي -نحن أصدقاء جداً- ابن الجبهة الشعبية، وسامر ابن جبهة ديمقراطية، وفلان [ينتسب إلى] "فتح"، فلماذا لا أنتسب مثلاً، وأصبح كذا.... طبعاً، لم يكن الأمر أكثر من هاجس، وخطر على بالي أن أصبح هكذا.
بالإضافة إلى ذلك، كانوا ينظرون بشيء من الشفقة أو ليست شفقة، ولكنها شيء من إدراك واقع السوريين، فهم عندما يحتدون في النقاش كانوا ينظرون إلينا، ويقولون: كان الله بعونكم. صحيح أننا نتخاصم، وتتصادم آراؤنا، ولكنكم حتى هذا الموضوع لا يمكنكم أن تتكلموا فيه. والمميز لدى الفلسطينيين أيضاً هو أن لديهم ذاكرة حصار المخيم (عندما حاصر حافظ الأسد المخيم) ولا أذكر في أي عام، ولكنها ذاكرة قوية جداً بالنسبة لهم، ويسمّون الذين قُتلوا في هذا الحصار شهداء وبكل فخر، وليسوا مترددين في ذلك، ولديهم إدراك أو لديهم إيمان بأن حافظ الأسد خذل ياسر عرفات، وخذل القضية الفلسطينية، وكان لديهم اعتقاد تستشفّه من أحاديثهم أو من صراحتهم مع الأصدقاء، فمثلاً: كان كل من متولي و سامر يقولون هذه الأمور بصراحة: إن حافظ الأسد باع القضية الفلسطينية، وباع فلسطين والجولان. وبالتالي، هذا اليقين لديهم يعطيك موثوقية زائدة، أو أعطاني ثقة زائدة بالمخيم، فأصبح الناس متوافقين أو متقاطعين معك نوعاً ما في كره النظام الحاكم أو في عدم الرضا عنه، فأصبحوا محلّ ثقة؛ لذلك كان المخيم مجالاً للتعبير عن الأفكار.
في تلك الفترة، في المخيم، قد تخرج إلى سهرة، فيتكلّمون عن النظام السوري أو أي شأن سوري، قد يكون خدمياً أو قرار وزارة، فتشعر بأنه أصبح لديك قدرة على الانتقاد في هذا الوسط الفلسطيني، ولو كان انتقادك ليس موجهاً أو واعياً بشكل كاف، ولكن كانت هناك حاجة للكلام والانتقاد مثلهم، فكنا نمارسها بهذا المعنى.
يوجد جزء من الفلسطينيين يتبع للنظام، مثل: أحمد جبريل والقيادة العامة الخاصة به، بالإضافة إلى ذلك عندما نقول: مخيم اليرموك. فإن غالبيته من السوريين وليس من الفلسطينيين، ولكن الطباع العامة والمزاج العام والثقافة السائدة هي الثقافة الفلسطينية، فالسوري بمجرد أن يدخل إلى مخيم اليرموك يبدأ بالتكلم باللهجة الفلسطينية، فكانت ثقافتهم هي السائدة، وكان هناك مخبرون، ولكن يجب ألا ننسى أنهم فصائل، فالفصائل أيضاً هي تنظيمات تعرف أن تحافظ على كوادرها، أو أنهم تربّوا أساساً ضمن هذه البنية التنظيمية التي تكون قد حذرة، ونحن نكون سلمنا بحذرهم وليس بحذرنا، فهم يعرفون مع من يجلسون، ومع من يسهرون، ومع من يسكرون، ومع من يتكلمون بصراحة، ومع من يجاملون، فعلى الأغلب، كان هذا هو السبب.
يوجد أمر آخر لدى بعض العوائل الفلسطينية كان مميزاً، وهو أن بعض العوائل كانت تتقاطع عملياً مع نفس النقاش الذي خضنا فيه أنا وعدنان حول ضرورة استمرار الحياة، ففي النهاية، هذا واقع، وأنت يجب أن تعيشه، فتتفاجأ بوجود عائلة قامت بتوزيع أفرادها على الفصائل، ومنهم متولي أبو ناصر، كان جبهة شعبية، وكان أخوه أبو حازم قيادة عامة مع أحمد جبريل، ولكن ضمن تخديم مشترك للعائلة، فأنا عندما كنت أجلس مع أبي حازم قبل الثورة لم يكونوا مختلفين في الأفكار أبداً، وكانوا متطابقين تماماً بوجهة النظر تجاه الفصائل الفلسطينية وتجاه النظام السوري، ولكن على ما يبدو أنهم يقومون بذلك؛ كي تسير أمورهم كعائلة، فكان الإخوة موزعين ، ولا أعرف إذا كانت هي ظاهرة أم لا.
ومجمل القول: إن الحالة الأقوى التي حافظت على وجودها خلال وجودي في مخيم اليرموك هي حالة "فتح"، كانت هي الطاغية والذاكرة والرمز، وكان الرمز أبو عمار، على الرغم من أن حماس كانت تعمل بقوة لبناء قاعدة عبر ضخّ مالي هائل جداً، ولكن بقيت "فتح"، وبإمكاننا أن نلاحظ هذا الموضوع من خلال مظاهرة تدعو لها "حماس"، فيكون فيها 500 أو 1000 شخص، ومظاهرة تدعو لها "فتح" فيكون فيها عشرات الآلاف مثلاً.
وهذا هو الواقع، وبدأت الثورة وأنا في هذه البحبوحة من الحرية المجتزأة أو في جزء من الحرية، كانت الميزة التي يعيطها المخيم ولا تعطيها لك مدينة دمشق هي أنك عندما تمشي في الشارع تشعر أنه لك، تشعر أن هذا منزلك وحيّك وشارعك، ولكن الشام لا تعطيك ذلك، بل تحافظ على إحساس دائم بالغربة، رغم أننا نتعلق بالشام جداً، ولكن لا يوجد شيء كنا نشعر أنه لنا- وأنا هنا أتكلم عن الريفيين- لا يوجد شيء نشعر بأنه لنا، ولكن في المخيم كان يوجد أول انتماء لهذه المدينة وهذا العمران، فتنشأ العلاقة، وقد يكون هذا السبب اللاحق الذي جعلني أختار الذهاب إلى المخيم.
معلومات الشهادة
تاريخ المقابلة
2019/10/14
الموضوع الرئیس
مخيم اليرموك قبل الثورةكود الشهادة
SMI/OH/53-08/
أجرى المقابلة
سهير الأتاسي
مكان المقابلة
اسطنبول
التصنيف
مدني
المجال الزمني
2002-2009
updatedAt
2024/05/06
المنطقة الجغرافية
محافظة القنيطرة-الجولان السوري المحتلمحافظة دمشق-مخيم اليرموكشخصيات وردت في الشهادة
كيانات وردت في الشهادة
حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي في سورية
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة
حركة المقاومة الإسلامية حماس
حركة فتح
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة الحرة