في مدينة حلب عموماً بشكل عام، الانتماء لحزب البعث عندما كنا صغار لم تكن البيئة المحيطة...، لا أذكر أحداً من معارفنا أو أقربائنا أو أصدقائنا منتمياً لحزب البعث، وبشكل عام المنتمي لحزب البعث هو أحد شخصين، إما شخص يريد أن يتسلق الأمور ليصل إلى مآرب أو شخص آخر مجبر، في بعض المناطق، كانت السلطة -وخاصة في الأرياف- تجبر السكان على الانضمام وخاصة الموظفين الحكوميين، فيُمارس عليهم إجبار لدخول حزب البعث.

ونحن بشكل عام نشأنا في بيئة لا يوجد فيها توجّه كبير للوظائف الحكومية، ولم يُمارس عليهم هذا الضغط للانضمام إلى حزب البعث، ولو أنني مررت بتجربة في الصف الأول الثانوي، وكان يدرسنا مادة القومية مدرس اسمه محمد علي عائشة، وكان أمين رابطة جول جمال، وكان يدرسنا القومية الاشتراكية في الصف العاشر (الأول الثانوي)، وكنا في الصف العاشر في 1982 تقريباً، وسأل سؤالاً: من ينال في التربية القومية علامة تامة؟ فأنا رفعت يدي، وكنت من المجدين في المدرسة، وقلت له: أنا آخذ علامة تامة. وقال لي: ممتاز، وهل أنت منتسب للحزب؟ وتفاجأت من كلامه، فقلت له: لا، غير منتسب. فقال: يجب أن تنتسب للبعث. وقال: من في الصف منتسب؟ رفع أحد الطلاب يده، وقال له: اجعله ينتسب للحزب في المرة القادمة. ومرّ أسبوعان، فعاد، وكرر السؤال: هل انتسبت للحزب؟ وقلت له: يا أستاذ، أنا لدي ضغط في الدراسة، ولا أستطيع أن أنتسب للحزب. فقال: حسناً. وأنا أخذت 7 من 20، وانكسرت (رسبت)، وحد الكسر (الرسوب) فيها 8 فأعطاني الدرجة 7. ولاحقاً، صار يسيء معاملتي لدرجة الضرب، في الأسبوع الذي يليه مع أن الصف كان فيه شيء من الفوضى، وأنا كنت أكلم زميلي، فهجم عليّ كالوحش، وضربني أنا وزميلي ضرباً مبرحاً، ونحن في الصف العاشر (الأول الثانوي)، فهذا نموذج.

في التعليم، كان كل موجه يجب أن يكون بعثياً، وأتت فترة خاصة بعد الثمانينيات أصبح هناك تشديد في المدارس، هؤلاء الأشخاص "الرفاق" البعثيون تنمروا على زملائهم من المدرسين وعلى الطلاب بشكل كبير، لدرجة أن كثيراً منهم يأتي ومسدسه معه، وكنا طلاب صف تاسع، زميلنا معنا في الصف، ولكن هو قام بدورة المظلي (دورة سقوط مظلي)، فكان يقف على باب المدرسة، ويفتش مدرسيه عندما يدخلون من باب المدرسة، فربما أحضروا معهم قنبلة إلى المدرسة أو سلاحاً؛ فيدمرون التعليم من خلال هكذا تصرفات، تخيل طالباً في الصف التاسع يفتش أستاذه فربما يكون إرهابياً، والثقة موجودة في هذا الطالب في الصف التاسع، لكن المدرس ليس أهلاً للثقة، فهذه مشكلة خطيرة، بالإضافة إلى أشياء ظهرت لاحقاً كالانتساب إلى الجامعة بالعلامات التي أعطوها للمظليين والذين قاموا بدورات الصاعقة والاستثناءات؛ فأصبحت البلد بدون نظام أو سيادة قانون نهائياً، وعشنا أياماً صعبة في 1980 حتى وفاة "المقبور" (حافظ الأسد)، وهي أيام صعبة يعرفها كل السوريين، وكان الرعب جاثماً على صدورهم، وحين مات بقي الناس فترة طويلة لا يصدقون (أنه مات). أنا التقيت بشخص، وكان أمين فرع حزب، ولكن الرجل من جماعة الذين يدخلون الحزب بهدف المصلحة، وبعد حوالي 6 أشهر أو 7 أشهر من وفاة حافظ الأسد، كان يقول لي: معقول مات! فقلت: مات، الأعمار بيد الله. والناس رجعوا، وأصبح لديهم (أمل) مع أنَّهم مغرقون في الإحباط واليأس ولكن مع مجيء بشار الأسد إلى السلطة ومحاولة تلميع وجهه، فالناس عموماً فطريون وطيبون مع أن غالبيتهم في قرارة أنفسهم يعرفون، ويدركون أنَّ هذا شيء ظاهري فقط، ولكن في الحقيقة لا يُرجى خير من هذا النظام، ليس بسبب بشار الأسد فقط، ولكن بسبب منظومة كاملة من رجال الأمن الذين تمرسوا، والذين لا يقلون سوءاً عن النظام، بل ربما سبقوه في السوء والإجرام والوحشية، وتورطوا في الدماء، فهؤلاء لا يمكن أن يتراجعوا أو يتنازلوا، وهذا الأمر موجود في أذهاننا وفي عقولنا وفي قلوبنا: أنَّ هذا النظام لن يتغير. ولكن مع ذلك الكثير من السوريين قالوا: عسى ولعل. لأنهم يعرفون أي تغيير للنظام بعد كل تلك الفترة الطويلة سيُغرق سورية في الدماء، وأظن أنه في قرارة نفس كثير من السوريين هذا الأمر معروف ومع ذلك قالوا: عسى أن يكون هناك طريقة ننتهي من الحالة التي نحن بها، ولكن ربيع دمشق مرّ، ومرت منظمات حقوق الإنسان، وعدنا من جديد إلى آلة القمع.