كان النظام قد بدأ يفكر كيف يقمع المظاهرات، فمثلًا: كانت تخرج المظاهرات في برزة، فلم يكن يتعامل معها كسلطة ضد أشخاص كما هو يسميهم: "مثيرين للشغب"، بل كان يأتي بزعران (سيئو الخلق) عش الورور ذو الأغلبية الطائفية العلوية، ويطلقهم على أهل برزة السنة، فكان النظام يتعمّد أنه يُحدث هذا الصدام والشحن الطائفي، وطبعًا النظام غايته بهذا الموضوع أن يجعل كل طائفته خلفه، ويستخدمها، وهو لديه خطته على ما يبدو، ويريد أن يفتحها حربًا على الشعب السوري، فهو بحاجة هذا الخزان البشري الخاص به حتى يكون خلفه، فبدأ يخلق نقاط التماس بهذا الشكل. وحتى خلال نقاشاتي مع أصدقاء من أبناء النظام، كنا نتكلم بهذا الكلام، يعني إذا خرجت مظاهرة لماذا لا تأتي الشرطة في مواجهتها إذا كان الأمر يتعلق بشغب؟! أما حينما تأتي بزعران من حيّ ذو لون طائفي وتطلقهم على ناس يتظاهرون من لون طائفي آخر، فهذا يعني أن خطتك هي إحداث هذا الصراع الطائفي، وتكريس الموضوع في سورية على أنه حرب أهلية أو موضوع تطرف أو موضوع الطائفية الذي يلعب على وتره. 

فهذا الكلام كنت أستغلّه، وأتكلم به، وفي وقتها بدأنا نرى المشاهد من بانياس وأحمد البياسي ومظاهرات درعا، وعندما بدأ إطلاق النار وسقوط الشهداء، [كنت أقول]: النظام إلى أين يذهب بهذا الحل المجنون؟! يا جماعة، أنتم أبناء النظام، أنتم الذين أهلكم وأقاربكم وناسكم في الأمن والجيش يجب أن يكون لكم صوت، وحاولوا أن تؤثروا بشيء ولو بالحد الأدنى لتطويق السلوك الطائفي للنظام، واصنعوا بؤر تظاهر في مناطقكم. فعندنا يقولون: "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد"، وأنا أريد أن أرى صدى لهذا الشعار بمنطقة من مناطقكم؛ حتى يبقى صوت العقل الذي نتكلم به [ويعبّر عن] وحدة الشعب السوري مسموعًا في الشارع، ولكن إذا أنتم انغلقتم، وقوبل الحراك الذي يحدث بالعنف والعنف الطائفي فحينها لن يكون بمقدور أحد تطويق المنحى الطائفي ولا القدرة على ضبط هذا الأمر، وبما أنكم أنتم يا أصدقائي، أيها المتنورون والمعارضون للطائفية هذه هي قناعاتكم فيجب أن تفعلوا شيئًا في مناطقكم، قوموا بشيء يوجّه رسالة للطيف العقلاني في الطرف الآخر أننا فعلًا: "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد"، ومشكلتنا ليست مشكلة سني وعلوي، وإنما هي مشكلة نظام حاكم ظالم ديكتاتوري ولص وفاسد وضد شعبه. 

للأسف، لم ننجح بهذا الكلام، وكانت هذه الحوارات خلال فترة استراحتي المرضية، وعلى ما يبدو قاموا بكتابة تقارير أمنية بي، وفجأة قالوا لي: لديك مهمة إلى الفرع 291. طبعًا، الفرع الخاص بالموظفين في وزارة الدفاع هو هذا الفرع، فقالوا لي: لديك مهمة إلى هناك، والآن فورًا "تسيير" (أي اعتقال مبطّن) واذهب إلى التحقيق، وذهبت.

وهناك تفاجأت، وطبعًا كان هناك سؤال عن الاعتقال الأول وعن مظاهرة [الجامع] الأموي، وبعدها بدأت تدخل الأسئلة بتفاصيل أحاديث أنا فعلًا تكلمت بها خلال نقاشاتي التي كنت أعتبرها شكلًا من أشكال الترويج لفكرة الثورة، فمثلًا سألوني عن البياسي وعن كلمة "شبيحة"، وكنت أنتقل من محقق لمحقق ثان بنفس الأسئلة، وطبعًا تمسّكت بإجابات، وحاولت أن أكون ثابتًا عليها، وألا يجدوا ثغرة فيها.

بعد يوم تمّ استدعائي لمقابلة رئيس الفرع، ودخلت، وعندها أعطاني محاضرة، وعندما قال لي: اجلس. قلت في نفسي وأنا مرتاح: سأخرج. وكانت محاضرته أيضًا عن المؤامرة والمنطقة والصمود والتصدي والوحدة الوطنية، وآخر شيء قال لي: لو لم تكن طبيبًا معروفًا ولك سمعة والوضع [كذلك] لكنت أخفيتك في سابع أرض، وأتمنى أن تكون -بما معناه- قد استوعبت الدرس. وخلال حديثه بهذا الكلام بدأت أتنفس، فالحمد لله انتهت القصة، وخرجت. 

حينها أدركت بأنه لن ينجح...، ويجب الابتعاد عن هذه المؤسسة (مستشفى تشرين العسكري)، وأصبح هناك خطر بأن أتعرض لأي أذى أو رد فعل. وحصل وقتها فعلًا، حيث قال لي مدير المستشفى: جاءتنا تعليمات بإيقافك. وكنت قد وضعت السيارة في الخارج احتياطًا، ووضعت في ذهني خطة هروب في حال كانت هناك نية لاعتقالي، وكنت قد خططت للهرب، وكنت سأقفز من السور باتجاه السيارة، ثم أخرج، وكان لي أصدقاء بحيث إذا علموا بأمر ما يخبرونني. وعندها ركضت، وخرجت وانتهى [الموضوع]، وذهبت إلى الغوطة، وفي هذه الأثناء وهذا الكلام الذي أتحدث عنه، كنت قد تجاوزت الأسبوع الأول والثاني [من الثورة].