بعد ما حدث في 15 (آذار/ مارس) في سوق الحميدية (مظاهرة الحميدية) وفي 16 (آذار/ مارس) [2011] أمام وزارة الداخلية (اعتصام الداخلية)، بدأنا ننتظر ونتوقّع ما هو الحدث القادم؟ وأين؟ لأننا تأكدنا أنَّ مسلسل الفعاليات لحراك الشعب السوري قد بدأ، فما جرى في هذين اليومين 15و16 (آذار/ مارس) هو فعل شعبي صرف لا علاقة للأحزاب والسياسيين به. في يوم 18 (آذار/ مارس)، كنت في صيدنايا في إطار مناسبة اجتماعية، وكنا على طاولة الغداء في سهل صيدنايا أنا وأسرتي الكبيرة، فإذا بهاتفي يرنّ، ويكون على الطرف الآخر صوت صديقي أيمن الأسود من درعا، ويقول لي: اسمع يا أبو شادي، في هذه الساعة خرجنا في مظاهرة من الجامع العمري. ويقوم بإسماعي أصوات المتظاهرين والهتافات، وواضح أنَّ هناك جمهورًا، وليس عملًا تجريبيًا مثل ما شاهدناه في اليومين الماضيين، وسألته بعض الأسئلة: من؟ وكيف؟ قال لي: أهل درعا ومن الجامع العمري، جامع المدينة التاريخي والأساسي، والآن خرجنا لأنَّ الاحتقان في درعا أصبح كبيرًا على قاعدة ما جرى للأطفال (أطفال درعا)، وكذلك بالتأثر مما يجري حولنا. وأغلقت الهاتف، وعدت إلى الطاولة وزففت الخبر لأسرتي بأنَّ أول مظاهرة شعبية قد خرجت في درعا الآن، وليست نخبة، وهذه مظاهرة شعبية، فبدأ الحديث والتندر: إلى متى ستستمر؟ وهل من الممكن أن تخرج في مكان ثان؟ ولا زلنا على طاولة الغداء، ولم يمرّ نصف ساعة وإذ بأيمن الأسود يتصل بي، ويصرخ: اسمع صوت الرصاص والقنابل المسيلة للدموع، واجهونا بالرصاص، وسقط الآن شهيدان! وقلت له: يا أيمن، دقّق في الكلام؛ لأنَّني سأنشر هذه المعلومات. وقال: سقط شهيدان: حسام عياش، وصديقه من آل الجوابرة [محمود جوابرة]، والآن سأرسل لك الأسماء والصور. وفعلًا، أنا على الهاتف كنت أسمع أصوات الرصاص والقنابل المسيلة للدموع، وعدت إلى الطاولة، وقلت لهم: لنذهب، لقد بدأت الثورة. وكان عندي استنتاج واضح جدًا: حين يسقط الشهداء، ويصبح هناك دم في الشوارع فنحن بدأنا مسارًا جديدًا كليًا. فكنت على ثقة بأن الثورة قد بدأت في هذا اليوم؛ لأن الحراك [اليوم] حراك شعبي حقيقي عام، بالإضافة إلى أنه وصل إلى الصدام مع النظام، أو في الحقيقة وبالأحرى صدام النظام مع هذا الحراك الشعبي بشكل عار؛ عنف عار للقتل بعد أن تقدّمت المظاهرة بنصف ساعة. وفعلًا، تركنا الطاولة (طاولة الطعام)، وقلت لأسرتي الكبيرة: لقد بدأت الثورة، وربما نستطيع أن نتغدَّى مثل هذا الغداء فيما بعد مع بعضنا وربما لا نستطيع. وفي الحقيقة، كان آخر غداء جمعني مع أسرتي، وحتى الآن لم نتمكّن من الاجتماع لتناول غداء. 

عندها بدأت الاتصالات، فنحن لدينا أشخاص في درعا، ولنتأكد أين ناسنا وعالمنا (أهلنا وأصدقاؤنا)، وكان لدينا رفاق هناك، وتأكدنا أنَّهم سلماء، وكان لدينا أصدقاء من آل الجوابرة وأحد الشهداء كان منهم، أصدقاؤنا هم أعضاء في الحزب (حزب الشعب الديمقراطي السوري)، وأنا أعرف أن أيمن الأسود من ترددي على درعا في عام 2009 و2010 من أجل نشاطات "لإعلان دمشق" والتجمع الوطني الديمقراطي، وكنا بعد إنهاء المهام السياسية نلتقي في بيته، وهو رجل ليس سياسيًا وليس معارضًا، هو مدرّس للرياضيات، ولكنه رافض للنظام، وحين قامت الثورة قام بواجبه فيها منذ اليوم الأول، ولذلك حين خرجت أول الأصوات في مظاهرة الجامع العمري كان يتصل بي ليعملني بذلك. 

 وبعد أن اتصلنا واطمأنَّنا على الأوضاع في درعا تلمّسنا الوضع، فالوضع لم ينتهِ، والوضع مفتوح لصيرورة لا أحد يعرفها؛ لأنَّ الأسر والشهداء الذين سقطوا، وكان هناك جرحى آخرون لهم أقارب موجودون في ريف درعا. الاتصالات الثانية كانت في الإطار السياسي، واتصلت مع أصدقائنا في الحزب وفي "إعلان دمشق"، وتداعينا نحو إعلان موقف، وما كنا متخوفين منه حصل، وماكنا قد حذرنا منه قامت به السلطة وذلك من خلال إطلاق النار المباشر وإسالة الدم السوري في الشارع، فلا بد من اتخاذ موقف في هذا الإطار. وفعلًا، كانت قد مضت بعض الأيام، وصدرت مواقف عن الحزب وعن "إعلان دمشق" تحدّد موقفًا جديدًا من هذه الواقعة الجديدة، وأنَّ الحراك الآن مقيَّد بإجراءات السلطة التعسفية والدموية وإلى أي حد إذا استمرت المظاهرات يمكن أن يصل النظام؟ ولكن في الحقيقة مهما بدا خيالنا في ذلك الوقت جامحًا فما فعلته السلطة على أرض الواقع كان أكبر وأخطر من كل توقعاتنا.