وكان عندنا [في سجن عدرا المركزي] شخص اسمه كاسر الروس، وكان معروفًا أنه كاسر الروس، اقتربنا منه، وكان شابًا في العشرين من عمره من حجيرة، وهي واحدة من قرى جنوب مدينة دمشق، وكان مختصًا حين يخرج في المظاهرات، ويضع عينه في عين تماثيل حافظ الأسد، ويخرج ويكسرها. فقال لي: كنا قد خرجنا في مظاهرة في حجيرة، وذهبنا باتجاه سبينة وباتجاه القرى الأخرى التي بقربنا (السيدة زينب وغيرها)، وفي تلك المنطقة في كل قرية وعلى مدخل كل قرية يوجد تمثال لحافظ الأسد، وبينما كنت أمرّ من جانب التمثال، فنظرت عيني إلى عيني التمثال، فقهرني، فقلت: لا أريد أن أبقيه. تسلقت التمثال، وبدأت أضربه، ولكن التمثال متين (حديد وإسمنت)، وخرج معي شباب آخرون، ولم يعد بإمكاننا أن ننزل إلا إذا أنزلنا التمثال. ووقفت المظاهرة تهتف حولنا، ونحن نضرب التمثال، وفي النهاية، كُسِرت قدمي، وكُسر التمثال، ووقعنا معًا على الأرض، وكانت الجبيرة لاتزال في قدمه. وهذه النماذج الخاصة والإفرادية تعطي صورة بأنَّ هذه الثورة ثورة الشعب والناس الذين ليست لديهم خبرة لا بثقافة الثورات ولا بتجاربها، ولكن لديهم شيء أساسي أنَّ الواقع غير مقبول ويجب أن نضع طاقتنا لننسفه. 

من الحكايات التي تُحكى في ذلك المهجع وتلك الباحة حكاية جمال ابن العبّادة، والعبادة هي إحدى القرى الصغيرة في غوطة دمشق والبعيدة عن دمشق نسبيًا، وفيما بعد أصبحت مركزًا لعمليات عسكرية في الغوطة لقوى الثورة. العبادة قرية صغيرة، وجمال شيخ القرية، وهو شاب عشريني أطلق لحيته، ويأخذ نصيبًا صغيرًا من الثقافة وبالكاد كفاءة (شهادة الثالث الإعدادي)، وقال لي: في صلاة الجمعة، حلقت ذقني؛ لأنَّني نويت أن أخرج، وأتينا بالقرية كلها (نساء وأولاد وصغار وكبار)، أغلقنا الأبواب، وخرجنا مظاهرة في القرية، وقلت له: لماذا حلقت لحيتك؟ قال: أعرف أنهم حين سيمسكونني سينتفونها. قلت له: هل كنت متأكدًا أنهم سيمسكونك؟ وقال: من الطبيعي [أن يمسكوني]. وكان قد حضّر نفسه للعملية، وكانوا قد أحضروه مع مجموعة شباب من العبادة، ويوميًا مساءً في الصلاة على طول المهجع، يصطفون لصلاة العشاء، وفي السجن، حتى الذي لم يكن يصلي في الخارج يصبح في السجن يصلي، وهذا شيء طبيعي. وفي إحدى المرات، قال لي: يا أستاذ، هل من المعقول أن أجلس معك عشرين يومًا ولا أستطيع أن أجعلك مسلمًا؟! فقلت: يا جمال ولو طقّت عيونك (لا تتعب نفسك) لن أصبح مسلمًا. هل تعلم لماذا؟ لكي تبقى هذه الثورة وطنية، جمال هل تريد هذه الثورة إسلامية أم وطنية سورية؟ فكّر ونظر، وقال: أريدها وطنية سورية لكل السوريين. قلت له: أنا وأنت نقوم بها، أمَّا إذا كنت لوحدك لن تفعلها. وقلت له: انتبه يا جمال، أنت شيخ في العبادة، ولكنك هنا لست شيخًا علينا، وهنا تتعلَّم منا أشياء كثيرة بما فيها في الإسلام، وفعلًا حين كنت أتحدث معه فأنا قارئ ومطلع، وأصبحت أتكلَّم له عن الصحابة وتاريخهم، وأصبحت أتكلَّم له عن الخلفاء ومراحلهم، وأصبحت أتكلَّم عن الإسلام ما نعرف، وما أعرفه ليس قليلًا، فاقتنع بأنَّه ينقصه الكثير، وكان حلمه كيف يجعلني مسلمًا، وكانت لديه روح مرحة جميلة. وفي آخر يوم حين كنا سنخرج [من المعتقل] أنا وفايز سارة، اصطفّ المسلمون ليصلوا، وكان هو أولهم في موقع الإمام، وأنا على سريري أجهز نفسي وحقائبنا أنا وفايز ورياض سيف ومجموعة أخرى، فإذا به يترك موقعه في الإمامة، ويأتي إليّ، وقال: ألم يهدك الله لتقوم وتصلي معنا ركعتين قبل أن تخرج؟ وكل الموجودين في المهجع ضحكوا بطرافة جميلة. وكان جمال وأهل العبادة يقدمون نموذجًا لإسلام بلادنا، وللمسلم الحقيقي المملوء بالتقوى ويهمّه الهدف، والذي لا يرى في البلاد أنَّ فيها مسلمين فقط، ولكنه يعرف أنَّ فيها آخرين، وسعيد بهذا العيش معهم ولمعرفته لهم. وفيما بعد وحين خرجت قبلهم، اتصل بي جمال من السجن، يقول: يا أستاذ، خرجتم وتركتمونا ولم تعودوا تسألوا عنا. وفعلًا، عملنا بكل اهتمام لإطلاق سراح جمال وشباب العبادة.