بعد انتهاء تلك الأيام الثلاثة [من اعتصام ساحة الأندلس/الشهداء في قطنا]، وكانوا حديث كل المنطقة، وليس المدينة فقط، ومعظم الناس الذين قلوبهم مع الثورة كانوا يحضرون بذلك الشكل أو ذاك، حتى النساء كن يحضرن بالمئات على السطوح المشرفة على الساحة وعلى أطراف الساحة، وكان أصحاب المطاعم في الوقت نفسه يصنعون طعامًا، ويحملونه بالمجان إلى أطراف الساحة (الأكل والشرب) لمن يريد. هناك زمن جديد قد فُتِح، وفتحته دماء الشهداء الثلاثة، وكنت بعد تلك الوقائع حين أمرّ في الشارع وحين أمر على سيدتين كبيرتين في العمر أسمعهما بأذني تدعوان لي: حفظك الله لأولادك، ليوفقك الله ويطيل في عمرك. يدعون لي بالخير ونحن مازلنا في مجال التضامن الكلامي مع بعضنا، ولكن شعر هؤلاء الناس أنَّ هناك شيئًا يحصل، والفم الذي كان مغلقًا فُتح، والذلّ الذي كان مخيِّمًا [انتهى] فهناك أشخاص طرقوا باب الحرية. ومن جملة الوقائع الهامة وذات الدلالة: في يوم من الأيام، هناك سيدة في الأربعين من عمرها هي وابنها، وعمر ابنها 12 أو 15سنة، وطرقوا الباب، وقلنا لهم: أهلًا وسهلًا. قالت: أنا صفاء القادري. وأنا لا أعرفها. ولكن أسرة القادري معروفة، هي أسرة كبيرة في قطنا ومتعلمة، وأسرة مشايخ ودين وعلم ومعروفة، وقالت لي: أنا رأيتك تتكلم، ونحن منذ زمن نريد أن نلتقي بك، ولكن أتى الوقت الآن. وسألتني عن [حال] الثورة في المناطق الأخرى، وكيف الآمال؟ وما هو الوضع؟ وتكلمت بما يجب قوله بأن الآمال لدينا قافزة وصاعدة. وقالت: نحن الآن نشكل منظمة حرائر ريف دمشق، ونريد أن تساعدنا في كتابة البيان التأسيسي لها، وهذا الموضوع سرني كثيرًا؛ لأننا دخلنا في الموضوع الجدي أكثر وهو: كيف تلتحم السياسة مع الثورة؟ ومحافظة ريف دمشق كبيرة من حيث اتساعها وبحجمها السكاني. وفعلًا، وضعنا معًا الأفكار، وصغنا مسودة إطلاق [منظمة] حرائر ريف دمشق، وبعد 3 أو 4 أيام، اتصلت، وقالت: نريد أن نزورك أنا وبعض الفتيات. فقلنا لها: أهلًا وسهلًا. فإذا بصفاء قادمة - رحمها الله توفت في عام 2015 كلاجئة في لبنان- دخلت ومعها عشر سيدات، أعرف بعضهن، ولا أعرف الأخريات، كن من عمر العشرين حتى الستين، منهن معلمات زميلات لزوجتي، وهناك مدرسات وطبيبات، وتعارفنا على بعضنا، وجلسنا. وكبيرتهنّ بدأت بالحديث، وقالت: تسمح لنا يا أستاذ أن نأتي إليك لنتعلم السياسة، وأنا أكبرت الكلام، وقلت لهن: لا نريد لأحد أن يتعلم من أحد، نحن كلنا الآن يجب أن نتعلم من الشباب ومن هذا الشعب، ولكن نريد أن نستخدم حكمتنا وخبرتنا لإبقاء هذا التيار ماض، وأنَّ هذا النبع الذي خرج من عندنا يلتقي بالينابيع الأخرى، ويشكل هدير الثورة الذي سيكون التغيير من خلاله. وتوافقنا أن نلتقي، ويأتين لزيارتنا لنتكلم بالسياسة، وتكلمنا عن الآفاق العامة للثورة، وما هي الأهداف التي يجب أن نعمل من أجلها. والسيدات كلهن سيدات محجبات ومسلمات، وزوجتي شاهدة، قلت لها: انظري إلى بنات الإسلام لقد جئن ليتعلمن السياسة. وهذا المشهد لا يمكنني أن أتصوره، وهن يعرفن أنَّني أنتمي لليسار وخارج من السجون وأنّي [مسيحي - الشاهد] وعلماني، ولكن الثورة فتحت هذا الباب، وهن يعرفن كل تلك الوقائع، ولكنهن بالمقابل يحترمن الواقع الجديد الذي نحن فيه وأننا في مخاض الثورة جميعًا، وكنت أتخيل أنَّني سأبذل جهدًا كبيرًا حتى أحققه في الوسط الاجتماعي لدي، فوجدت الناس متقبلين له، وهم يتقدمون تجاهي بشجاعة لم أكن أتحلى بها في ذلك الوقت. 

في الحقيقة، كان دور المرأة في تلك الأيام التي بدأ النشاط يخرج فيها إلى العلن كبيرًا، وكان مفاجئًا لي أن السيدات المسلمات خارجات بعزم للاشتراك في مظاهرات مستقلة هن قمن بها في مدينة قطنا، والمشاركة في الاعتصامات والتأبين للشهداء بأعداد كبيرة، وبالإضافة إلى توجههم المباشر نحو السياسة لبناء مؤسسات للثورة، فمنظمة حرائر ريف دمشق هي واحدة من المؤسسات التي بدأ شباب الثورة يجتهدون لتشكيلها، وأن يكون منذ البداية النساء لديهن فعل الريادة هذا، وعندهن هذه المبادرة التي هي فعل ريادي مشهود ليكون تنظيمًا على مستوى ريف دمشق، وهذه بالنسبة لي مفاجأة سارة، وأعطانا نحن السياسيين حجم اطمئنان كبير، بمعنى أنه لا تظنوا أن الموضوع يحصل بحضوركم فقط، إنما في غيابكم تحصل أشياء كما تريدون وأفضل.