الذاكرة السورية هي ملك لكل السوريين. يستند عملنا إلى المعايير العلمية، وينبغي أن تكون المعلومات دقيقة وموثوقة، وألّا تكتسي أيّ صبغة أيديولوجية. أرسلوا إلينا تعليقاتكم لإثراء المحتوى.
ملاحظة: الشهادات المنشورة تمثل القسم الذي اكتمل العمل عليه، سيتم استكمال نشر الأجزاء المتبقية من الشهادات خلال الفترة اللاحقة.

الاعتقال في مهجع صيدنايا، والحركة التجارية والمشروع الغذائي

صيغة الشهادة:

فيديو
نصوص الشهادات

مدة المقطع: 00:30:15

الطعام في المهاجع أفضل بقليل من الزنزانات، ويتميز بأن فيه لحمًا، وأقصد بذلك لحم الدجاج، ويُقال إنه قبل أن نأتي كان يأتيهم لحم عادي (أحمر - المحرر) وذلك مع بدايات الثورة، ولكننا عندما جئنا كان يأتي الدجاج المشفّى، فهم يسرقون كل اللحم الموجود في الدجاجة ويتركون العظم وبعض الجلد والقليل من اللحم في داخله، وكانت تأتي الشوربة (الحساء) مخلوطة مع (...)، وماصلة فالماء لوحده والعدس لوحده ومخلوطون مع بعض الرز، وكل هذا الطعام إذا كان في المهجع 25 شخصًا فإنه لا يطعم 10 أشخاص، بل ولا يُطعم 5 أشخاص، ويأتي فوقهم البيض، وأحيانًا تكون حصة الشخص بيضة، وأحيانًا نصف بيضة، وكمية الخبز أحسن بقليل من الزنزانات. وهنا أيضًا كل عدة أيام كانوا يقدمون الشاي، يحضرونه في سطل أو في القنينة أحيانًا، ويكون باردًا مثل الثلج، ويقتسمه الشباب فيما بينهم، وفي الكثير من الأحيان كانوا يدخلون (أي السجانون – المحرر) وينثرون الطعام على أرض المهجع ويدعسون عليه، ويصبون الشاي على المعتقلين، وطبعًا الشاي البارد وليس ساخنًا. 

 وفي إحدى المرات أحضروا القصعة فيها طعام، والتواليت (المرحاض) مرتفع عن أرض المهجع حوالي الشبر، بنفس ارتفاع حافّة القصعة، ووضعوا القصعة على الأرض وأصبح فمها على مدخل التواليت، وأحضروا القشاطة (أداة للتنظيف) وقشطوا ماء التواليت كله في القصعة، وخلطوها مع الطعام، وطبعًا نحن لم نر هذا الأمر، ولكن الذي كان يوزع الطعام هو عمرو (عمرو خلف – المحرر)، وهو نظيف جدًا وكان يهتم بالنظافة؛ ولهذا السبب كلفناه بتوزيع الطعام، وكانوا يقولون له: "دكتور"، وهو صيدلاني، ورغم أنه كان في حياته خارج السجن مأنّف جدًا (يشمئز كثيرًا) ويقرف، ولكن في السجن تغيرت هذه القصة. وهو رآهم بطرف عينه، ونحن كنا جاثيًا ووجهنا نحو الجدار وعيوننا هكذا، وهو كان عند طرف الحمام فشاهدهم بطرف عينه ماذا يفعلون، وعندما ذهبوا جاء وقسّم الطعام ولم يتحدث، ونحن أكلنا، وعندما انتهينا من الطعام ذكر لنا هذه القصة، وهو طبعًا أكل معنا، وقال: "إذا لم تأكلوا فسوف تموتون، يجب أن نأكل"، وأحيانًا كانوا يهرسون البيض بأقدامهم وبأحذيتهم. 

من بين الأمور التي كانت في المهجع ومن بين القوانين أنه ممنوع تجاوز خط الحمام إذا كانت هناك حركة في الممر، وإذا كانت هناك حركة في الممر فيجب أن يكون الجميع بوضعية جاثيًا ووجهه نحو الجدار، بحيث إذا فتح السجان الطاقة وشاهدك وأنت تضع يديك على عيونك في هذه اللحظة، وشاهد يديك على عينيك، حتى لو كنت جاثيًا فأنت لم تكن مستعدًا من قبل فالويل لك، وتحدثنا سابقًا عن العقوبات كيف تحدث. 

غير ذلك كان الشباب يمضون أيامهم بالحديث عن ذكريات السجن، وعن الأوضاع في الخارج والعفو، ويتحدثون عن الطعام والطبخات، والأمور التي أصبحت هي الشغل الشاغل للمعتقلين. وجاءت فترة نسوا فيها الخروج من السجن، وأصبح عملهم هو التجارة، وأصبحت هناك حركة تجارية في المهجع على الأقل عندنا، وأصبح الشباب يعملون في تجارة الطعام، وأصبحت العملة هي رغيف الخبز، والمواد الغذائية التي تأتي هي السلع التي تُباع وتُشترى. مثلًا: إذا جاء الطعام وفيه رز، فتكون حصة الشخص ربع كأس من الرز أو نصف كأس من الرز أحيانًا حسب الكمية، وملعقة مربى وحبة زيتون، وإذا كان هناك برتقال فتكون حصة الشخص حزين (قطعتين) من البرتقال، ولا يجلبونهم مع بعضهم، بل مرة هذا ومرة ذاك، وإذا كان هناك حلاوة أو دجاج، فأنت ماذا تفعل؟ تبيع هذه الحصص، مثلًا: حصة الحلاوة كانت غالية لأنها مرغوبة جدًا وعليها طلب، وعندما تأتي يعيّد الناس، وحصة الحلاوة قيمتها رغيف ونصف، فأنت تبيع حصتك من الحلاوة برغيف ونصف، وتضيفه للخبز الموجود لديك، ويصبح لديك رصيد من الخبز، وهذا الخبز تدّخره وتخبئه، فربما في أحد الأيام تأتي زيارة لأحد الأشخاص ولديه ثياب فائضة، حينها تشتري أنت هذا اللباس، وتشتري كنزة إضافية برغيف. وعندما انقطع الماء عن المهاجع أصبح يُباع، وكانت حصة كل شخص من الماء المتبقي في الخزان كأس واحدة، ويوجد أشخاص لا يريدون شرب الماء، فباعوا كؤوسهم برغيف من الخبز، ويوجد أشخاص يشترون حصصًا بالدَّين.

صارت تجارة حقيقية، ولها تنظيم، حتى إنه أصبح هناك تسعير، ورئيس المهجع كل يوم صباحًا يصدر تسعيرة للمواد، وكان هناك تجار، مثلًا: كان هناك تاجر يقول لك: "أنا عندي في السوق أربع ربطات خبز"، وهو ليس لديه شيء منها، ولكنه باع فلانًا بالدين رغيفًا والثاني (...)، وعندما يأتي الخبز فإن حصة الشخص الواحد في أحسن الأحوال في المهاجع لا تتجاوز رغيفًا ونصف، هذا في حال كان هناك تحسين كبير في الطعام والوضع ممتازًا جدًا، فيحضرون عدة ربطات، وتكون حصة الشخص الواحد رغيفًا ونصف، فوسطيًا حصة الشخص رغيف واحد من الخبز، وأحيانًا ثلاثة أرباع الرغيف، أو رغيف ونصف أو رغيف وربع، وكان هناك أشخاص يبيعون حصصهم، ويوجد أشخاص يشترون، وإذا جاءتنا حلاوة كان يوجد أشخاص يشترون الحلاوة ويصرفون كل الخبز الذي عندهم، أو يشترون الحلاوة بالدَّين، ويوجد أشخاص يبيعون كل طعامهم بالخبز، ويوجد أشخاص يشترون كل الطعام ويبقون بلا خبز للأيام القادمة بالدَّين. وأنا أتذكر أنه كان هناك أشخاص جاؤوا ولا يوجد لديهم طعام؛ لأن الشخص قد باع كل شيء، وعندما جاء الطعام كان قليلًا، ولكن كمية الخبز جيدة فوفى (الخبز) الدين.

عمليًا السلطة التنفيذية هي التي تُلزم الناس (...)، أولًا: كانت هناك سلطة أخلاقية تُلزم الناس بتوفية ديونهم، وثانيًا: توجد سلطة تنفيذية لرئيس المهجع؛ لأن رئيس المهجع كان سيئًا؛ فكان الشباب يخافون منه، وكانوا يلتزمون بقراراته. كان هناك أشخاص عندهم مثلًا ربطتان في السوق أو ربطة في السوق فيقول لك: "أنا عندي في السوق بضاعة جيدة، عندي الكثير من الخبز"، ولكنه لا يملك منه شيئًا، ولا أحد لديه ربطتان من الخبز في المهجع، ولكنه يوفيهم يوم الخميس الذي هو يوم الجمعية ويجمع [فيه الدين]، فعندما يأتي خبز يجمعه، وعندما يأتي الطعام يقول: "أعطني رغيفك". وكان هناك أشخاص يبقون بدون طعام، وحتى إن هناك أحد الأشخاص أصدر رئيس المهجع قرارًا بعدم بيعه للحصص؛ لأنه بقي بدون طعام وكاد أن يموت، فقد بقي لمدة يومين بدون طعام؛ لأنه قد باع كل شيء، إما أن يبيع أو يرهن، بمعنى أنني إذا جاءتني حصة سأعطيك إياها، أو أن يبيع ويكسب الخبز، وأحيانًا حتى إنه إذا صرف الخبز ووفى الديون فإن الأكل الذي يأتيه يحوله إلى تقاضٍ مثلًا: لك عندي لقمة رز، وعندما يأتي الرز يوفيها ويبقى بدون طعام.   

بعدها الشباب طوروا شيئًا اسمه (...)، مثلًا إذا جاءت ملعقة من المربى وسعر المربى مثلًا: رغيف من الخبز، فيضع المربى في الرغيف ويبيعها لك برغيفين ونصف، أي هي سعرها رغيف ويلفها برغيف فيربح فيها نصف رغيف، وبعد ذلك حصلت مشكلة يومها، فالموضوع لم يكن مزاحًا، وإنما الأمر أصبح حقيقيًا وأصبح هناك نظامًا، وبعد ذلك أصدر رئيس المهجع قرارًا بمنع السندويش (الشطائر)؛ لأن هذا السندويش يحصل فيه استغلال، وكانت تحصل العمليات بالسر تحت البطانية، أي يُباع الرغيف دون علم رئيس المهجع، وكُشف شخص وقام بتعنيفه. وكانت تحصل سرقات، فهؤلاء الأشخاص الذين يبيعون والتجار الذين يكبرون كانوا يسرقون خبزه، وكانت تحدث قصص كهذه. 

كان هناك شيء قاموا به من أجل مواجهة الجوع، وهي أن تقوم المجموعات بمشروع اسمه المشروع الغذائي أو مشروع الأكل، وهذا كان يحصل كل أسبوعين أو كل أسبوع حسب المجموعة، ومشروع الأكل يعني أننا مثلًا: خلال أسبوع أو أسبوعين نشتري ونقوم بالتخزين، ويأتي المربى فنشتريه ونخزّنه، وتصبح حصتي مع حصتك مع حصة المجموعة كأسًا من المربى، وأنت في البيت لا تأكل كأسًا من المربى، كأس ممتلئ، ونقوم بتخبئتها، وعندما يأتي البرتقال نشتري الحصص كلها ويصبح لدينا برتقالتين، وأيضًا نخبئهما، ويأتي الخبز فنقوم بتخزين الخبز، وهكذا نستمر في الشراء حتى يأتي وقت المشروع، وأيضًا عندما يأتي البيض نخزنه حصصًا، نصف أو ربع بيضة، وبعد أسبوعين نقوم بمشروع غداء، ونحضّر طبخة كبيرة، فنحضر سندويشات البيض والبطاطا ونحضر فتة البرتقال والمربى والخبز، نقوم باختراعات، ونحضر رزًا، ونخلط إحدى هذه المأكولات فنحصل على اختراع، وفتة قشر البرتقال مع المربى وكانت لذيذة جدًا، وهكذا. 

في إحدى المرات مثلًا: كنا نصنع من الخبز طبخة (طبقًا)، فنأتي بجزء من الخبز، من جهة الجو بارد ومن جهة أخرى حتى يمضي الوقت، ونضع القصعة هكذا ونفرك الخبز بأيدينا لمدة ساعة، فيعود إلى حالة الطحين، فنخلطه مع حزّ البرتقال ويصبح عجينة، فيصبح لذيذًا، ثم نضيف إليه شيئًا آخر-نسيته- ويصبح لدينا طعام لذيذ، فنستمتع بأكلها ونبيعها، فهذه الأمور تُباع أيضًا، وهذه الخلطات تُباع، فسندويشة البيض مع البطاطا تُباع بسعر جيد. كنا نأكل خلال هذا المشروع ونكاد نُتخم، وهذه التخمة ليس لها علاقة بالواقع؛ لأنه هذه التخمة ليست تخمة في الواقع بل أكل عادي، ولكنها في السجن تخمة، ونتيجة هذا المشروع كان يفيض عندنا منتجات أخرى فنقوم ببيعها وهكذا يحدث، وهكذا نقضي [الوقت]. 

عندما يُوزع الطعام يجب أن يجثو الشباب ووجوههم نحو الجدار، يُوضع الطعام على أبواب المهاجع، وتُرمى القصعة، وعندما تُرمى وبحسب طريقة رميها نعرف أن اليوم يوجد خير زيادة أو لا يوجد بل هي كمية قليلة، وبحسب طريقة رمي ربطات الخبز نعرف أن اليوم توجد كمية خبز كبيرة أو لا يوجد، وكنا ننظر بطرف عيننا، [ونقول لبعضنا]: "يا شباب، اليوم يوجد بيض ويوجد كذا"، ويكون الشباب جاثين وأحيانًا قد يدخل السجان ويضربهم، ولكنهم يهمسون بين بعضهم: "اليوم أنا أبيعك من عندي أو لي معك كذا"، هكذا تكون الحكايا. 

عندما يوزعون الطعام إلى المهاجع ويتعرض المعتقلون للضرب فإن الناس ينسون هذه القصص، وبعد تضميد جراحهم يعود البازار، وتعود الحياة الطبيعية، وأحيانًا يكون لدينا شهيد، ولكن بعد ذلك تعود الحياة الطبيعية ويكمل الشباب حياتهم. وأتذكر أن هناك شخص بلغ به الأمر [أن يقول]: "إذا خرجت أو مت فإنني أشهدكم أن لي في السوق ربطة خبز وهي لفلان"، ويوجد شخص لم يوصِ أحدًا، وكان يخزن [الطعام]، وعندما يأخذونه إلى أي مكان سواء كان عفوًا أو إعدامًا فإن كل بضاعته يتقاسمها الشباب بين بعضهم بإدارة رئيس المهجع. 

كان هناك شاب اسمه رائد كتيلة وهو خرج من السجن الآن الحمد لله، حيث خرج من سجن حماة بعد صفقة سجن حماة، رائد كتيلة كان مصابًا بالتهاب في قدميه منذ الأيام التي كان فيها في الفرع 215 (فرع المداهمة والاقتحام 215/ شعبة المخابرات العسكرية – المحرر)، وكانت قدماه متعفنتان، وكان يحتاج إلى تغيير ضمادة كل 3 أيام، وكانت عنده واسطة فكانوا يغيرون ضماده كل 3 أسابيع، فقد كان له قريب في الشرطة العسكرية، وعندما يغيرون له كانت تنتشر رائحة قدميه مثل رائحة الميتة أو الفطيسة (الميتة من الدواب – المحرر) عندما يفكون الضماد، وكان في ذروة البرد في صيدنايا يمشي حافيًا؛ لأنه لا يشعر بالبرد فقدماه دافئتان مثل النار وملتهبتان، وعندما يغيرون له الضماد أحيانًا تسقط أحد أصابع رجليه من دون أن يتألم، ويمسكها هكذا فقد سقطت إحدى أصابعه، ويبدو أن لديه مرضًا مثل تساقط الأطراف نتيجة مكوثه في الفرع 215.

موضوع الجرب وهذه الأمراض شيء طبيعي، ومن الأمور التي يقضي فيها الناس عمرهم في صيدنايا (سجن صيدنايا العسكري – المحرر) هو الحكّ، ويصل إلى حالة أن الحك فيه نشوة، ويجعل الشخص يحكّ أكثر ويهشم نفسه أكثر لدرجة خروج اللحم، وبالتالي يحكّ ويشتهي أن يحكّ أكثر حتى يخرج الدم والقيح، وهو كلما حكّ مكانًا فإن الحكّ ينتقل إلى مكان ثان فيُصاب بالعدوى، ويتجرثم الجسم كله، وهناك أماكن الحك فيها - عذرًا منكم - يسبّب رعشة جنسية أي أسفل الظهر حيث تظهر الكثير من الحبوب، والحكّ في هذا المكان بالذات يؤدي إلى نشوة جنسية للكثير من الشباب، وأنا لا أعرف ما هو السبب العلمي لهذا الموضوع، وكلما يحكّ يسقط من الجسم بودرة من الجسم أو قشور ومسامير وأوساخ وأشياء مقرفة، ولك أن تتخيل أنهم عندما يرمون الطعام على الأرض فإن الأرض يوجد فيها هذه الأمور كلها، بالإضافة إلى الشعر والقيح، وهم يرمونه على الأرض ونحن نضطر لأكله.

قصة إدارة الجوع وإدارة معركة الجوع، وأنا كنت أقول لهم: "يا شباب، اتركوا ربع رغيف أو نصف ربع من أجل الليل مهما كانت الكمية، اتركوا قطعة صغيرة حتى تكون وجبة ثانية"، ولكنهم لم يستجيبوا، وفي أحد الأيام كنا جالسين ونكاد نموت من البرد، وكنا نغطي أنفسنا والبطانية فوقنا وكنا نجلس 5 شباب، والشباب جائعون كثيرًا ويعرفون أنني أخبئ طعامًا، فأخذوا يقولون فيما بينهم: "يا ليتنا سمعنا كلام منير وفعلنا مثله"، وأنا كنت قد خبأت الطعام وأريد أن أقوم لآكله، وأنا فقط أحاول أن أهرب قليلًا من البرد، ثم أنسل من تحت البطانية وأذهب لأحضرها وآكلها، وهم قالوا ما قالوه وبقوا يحلمون بأكل قطعة خبز. فكرت قليلًا، وطبعًا كلنا كنا جائعين كثيرًا، ويوجد معي نصف ربع رغيف الخبز، قطعة صغيرة كنت قد تركتها حتى الليل وهي من حصتي، فتركتهم وذهبت إلى المكان الذي خبأت فيه قطعة الخبر وأحضرتها، وعدت إليهم وقلت لهم: "اقسموها بينكم"، وهم طار عقلهم (فرحوا كثيرًا – المحرر) وذُهلوا، وطبعًا كانت حصة كلّ منا قطعة تعادل لقمتين، فيبقى يمضغها في فمه لمدة ساعة كاملة لكثرة [ما يستمتع بها] ويتلمظ، وبعد أن أكلناها شكرني الشباب، وحتى الآن من نجا من الشباب يذكرون هذه القصة، فقد كانت رهيبة؛ لأنهم كانوا قد قاربوا على الهلاك بسبب البرد والجوع.

وعندما انتهينا اكتشفنا -ألسنا مجموعات-  أن مجموعة شباب اللاذقية وهم أصحابنا، كانوا قد أقاموا يومها مشروع طعام وهو المشروع الذي تحدثنا عنه، وهم لم يذكروا ذلك لأحد، وعندما كنا نجلس تحت البطانيات هم كانوا يجلسون تحت بطانياتهم ويمدّون طعامهم ويأكلون بسبب البرد، وعندما انتهوا جاؤوا إلينا وقالوا لنا: "كان لدينا مشروع اليوم، وانتهينا من الطعام وزادت لدينا 3 أرغفة [من الخبز]، ونحن نهديها لكم"، هكذا دون أي مقابل. وتلك الأرغفة الثلاثة كانت بمثابة من يهديك 3 آلاف ليرة في ذلك الوقت، وكان يمكنهم الشراء بالأرغفة الثلاثة فهي بضاعة، [ولكنهم قالوا]: "يجب أن تأكلوها"، فأهدونا إياها وأكلناها، والشباب قرروا تعويضي؛ لأنني سبق وأعطيتهم، وهكذا كانت حياة الناس في المهجع. 

من بين الأمور التي كنا نقضي فيها وقتنا هي الرياضة، وليس الجميع كان يلعب الرياضة، فالباقي كانوا تنابل (كسالى – المحرر)، وإذا كانت مساحة المهجع 40 مترًا فهناك مساحة 6 أمتار مربعة أو 10 أمتار مربعة يُحشر فيها كل المساجين في الزاوية؛ حتى يتدفؤوا مع بعضهم، سواءٌ كانوا قد سمحوا لهم بالبطانيات للجلوس عليها أو لم يسمحوا، فإنهم يُحشرون في هذه المساحة بوضعية بحيث إنهم بمجرد أن جاء السجان يستطيعون إدارة وجههم إلى الخلف ويجلسون بوضعية جاثيًا، فيُحشرون أنساقًا في 10 أمتار مربعة، وباقي المهجع كان فارغًا، وإذا لم يكن هناك سجانون في الممر، فإن من يريد التحرك يستطيع التحرك في هذه المساحة الفارغة، ومن يريد أن يبقى جالسًا وكسولًا فإنه يبقى كذلك.

وأنا كنت كل يوم في هذه المساحة [أقرأ] أوراد الصباح، وأراجع القرآن أنا والشباب الذين كنت أراجع معهم، وكنا نمشي اثنين اثنين في هذه المساحة ذهابًا وإيابًا، وأبقى من الصباح حتى الساعة الثانية ظهرًا أذهب وأعود. وكنت هنا أريد استعادة طاقتي، وكانت أول محاولة فعلتها (...)، وطبعًا كان تمرين المعدة يتم بصعوبة، وتمرين الضغط كان يتم بصعوبة أكثر، وبقيت طوال فترة السجن، والشباب نصحوني بالمحاولة؛ لأن بعض الشباب رياضيين مثل عمرو (عمرو خلف – المحرر) ومصطفى (مصطفى دوابي – المحرر)، و[قالوا لي]: "لا ترفع جسمك بشكل كامل، وإنما يمكنك أن ترفع نصف جسمك متكئًا على يديك ودون أن ترفع باقي جسمك"، وكأن باقي الجسم -أبعد الله الشر عنا- مقطوع من نصفه ولا توجد أرجل، و"عليك فقط أن ترفع صدرك متكئًا على يديك"، وحتى استطعت أن أرفع نفسي 3 مرات كان إنجازًا عظيمًا؛ لأنه لا توجد قوة أبدًا، وبعد ذلك زدت العدد، وعندما زدتها صرت قادرًا على أن أفعلها 15 مرة دون أن أرفع بقية جسمي، وكنت بصعوبة أستطيع أن أرفع جسمي 15 مرة، وكان إنجازًا عظيمًا، حيث قلت للشباب: "أستطيع أن أرفع جسمي 15 مرة"، ومصطفى كان يرفع جسمه بشكل كامل (ضغط كامل)، حيث كان يرفعه مرة واحدة وعمرو مرتين، في الخارج يستطيع الشخص أن يرفع جسمه تقريبًا 50 مرة وعلى أصولها، أما هنا إذا رفع الشخص مرة أو مرتين فهذا إنجاز عظيم، وكنا نتحرك ونلعب الرياضة وهكذا.

مرة واحدة خلال وجودنا أحضروا لنا منظفات، أي ندوة (نقطة بيع – المحرر) منظفات، وجعلونا نشتري منها، وكانت الكميات ضخمة وتكفينا لمدة سنة، وهذه المنظفات يوجد فيها سائل الجلي، ووزن العلبة تقريبًا كيلو غرام واحد، والشباب كانوا يلعبون فيها أثقالًا كل يوم، ليسوا جميعًا وإنما فقط من يريد ممارسة الرياضة، فيلعبون بها أثقالًا، وأحيانًا بعض الشباب الذين كانوا يتعرضون للضرب كانوا يحاولون التغلب على الألم.

كان هناك شيء اكتشفناه في السجن (...)، وأنا الآن أصبح عندي إيمان وقناعة حقيقية به وهو إرادة الحياة، وأن الإنسان هو الذي يسرّع عملية موته أو يقرر موته، صحيح أن الأعمار بيد الله وهذا لا نختلف عليه، ولكن قرار الموت يكون مثل الانتحار، ومثل الشخص الذي يمسك السكين ويطعن نفسه، وعندما يقول الشخص: "أنا سوف أموت"، فإنه مثل الشخص الذي أمسك سكينًا وطعن نفسه، وهو يعطي رسالة لجسمه وحواسه أنه سوف يموت فيموت، وعمليًا كأنه قتل نفسه، ومن يقرر أن يعيش فإنه سيعيش.

طبعًا أنا وعدد من الشباب كان قرارنا أن نعيش، فنحن قُطفنا في أول الثورة ولم نرَ شيئًا من الثورة بعد، حضرنا سنة واحدة فقط، وكانت تحصل هذه المعارك في الخارج ويجب علينا الخروج وحضور هذه المعارك والاستمرار، وحتى بصراحة كانت عندي قناعة أنني لا أريد استهلاك نفسي في معركة مع النظام فقط لأنني ضحيت أو صمدت دون مقابل مثلًا، وقد يكون هذا القرار خاطئًا، ولكن في حال أنك [أردت أن] تدخل في معركة مع النظام في السجن، وتتحدى السجانين وتصرخ في وجههم، وترفض طلباتهم وتشتمهم وتشتم بشار الأسد مقابل إزهاق روحك، وينتهي كل شيء، ماذا ستستفيد؟ تلك كانت الحسبة، بينما إذا حافظت على نفسك وخرجت، وإذا خرجت يكون لك دور، وهنا كان التوازن.

وهذه الحسبة في سجون الأسد ليست سليمة جدًا، فغالبًا والاحتمال الأقل أنك سوف تنجو، وأنت في كل الأحوال ميت، وإذا كنت ستموت في كل الأحوال فخُذْ هذا الموقف الشجاع وقِفْ في وجههم. ولنفترض أن شخصًا من مساجين صيدنايا الذين لا يستطيعون الكلام والذين يخافون وقد تملكهم الرعب، صرخ صوتًا وألّب السجن كله، قد يقتلونه، ولكنه سيكون مثل يوسف العظمة أو سليمان الحلبي، سيكون حالة تقول للأجيال القادمة إن هناك شخصًا وقف في وجه هؤلاء الظالمين في مكان سيء، وطبعا عمليًا القضية كسبت على المدى البعيد، ولكنها لم تكسب حينها، وهو مات فقط.

للأسف في سجن صيدنايا هذه الحالة لم (...)، وأنا سبق وذكرت قصة الملازم قصي حنيدي -رحمه الله- من دير الزور الذي كان يتجهّم في وجههم (في وجه السجّانين – المحرر)، ويقولون له: "اخلع ثيابك" ويريدون إدخاله إلى الزنزانة"، وهو كان يرفض، واستمروا بضربه حتى قاموا بتعريته بالقوة، كان هناك أشخاص كهؤلاء، وهناك أيضًا قصة الشباب الذين صاروا يقولون: "ماء ماء"، وهذه أيضًا قصة من قصص التحدي للسجانين، وهذا الأمر كان يحصل، ولكن أن يحصل التحدي على نطاق واسع، وأن تحرض الناس في السجن [لم يكن يحصل ذلك]، فقد كان الناس منكسرين، وكانت هناك لعبة يلعبونها على الناس، وهذه حصلت في تدمر (سجن تدمر – المحرر)، كانت هناك القصة نفسها، بأن هناك أمل بالخروج والاستمرار، وفي تدمر كان الناس يظنون أنه لن يحصل لنا ما حصل بعد ذلك، وهم لا يقولون: "غير معقول"، وإنما كانوا لا يفكرون به أو لا يعرفونه أصلًا، وكان يظنون أن كل درجة قاسية ستكون آخر درجة ولن يأتي أقسى منها، ونحن سوف نخرج، فحصلت عمليه الاستدراج هكذا. وفي صيدنايا الأمر مختلف حيث كان الناس يظنون أنه لن يحصل لنا ما حصل في تدمر؛ لأن العالم لن يرضى بهذا الشيء، ففي الحالتين كان هناك استدراج.

 

إذا انتصر النظام الآن، ونحن الآن في عام 2020، فهي نصيحة للأجيال القادمة إذا أرادوا القيام بثورة، فأمامهم تجربة الثمانينات وتجربة ثورة عام 2011، وهذا النظام يذهب مع المعتقلين إلى آخر حد، ولا يوجد حد أدنى لإجرامه، ودائمًا يذهب معهم إلى آخر حد، ويجب أن يذهبوا معه إلى آخر حد، ولا يجب أن يثقوا أنه من الممكن أن (...)، فالنادر جدًا والاستثناء جدًا أن يفرج عنهم أو يقدم لهم تنازلًا، والأصل أنهم عندما يدخلون إلى السجون ومعتقلات الأسد في حالة ثورة معينة يجب أن يعرفوا أن هذه السجون للتصفية وأنهم ميتون في كل الأحوال، فليثوروا ثورتهم عليه وهم في السجن؛ لأنهم سوف يموتون في كل الأحوال، والأعمار بيد الله، وهذه القناعة يجب أن تنتقل، ويجب على الجميع عندما يكونوا موجودين في سجون الأسد أن يأخذوا موقفًا. وحصلت قصة في أحد فروع الأمن العسكري، وهي أن أحد السجناء شُتمت والدته، وكان رياضيًا من درعا وكان يمارس الألعاب القتالية، فاستطاع كسر قيده، واسمه محمد المحاميد، وكان لديه ناد "للكونغ فو" في درعا، كسر القيد وهجم على السجان وضربه، بينما في صيدنايا عملية الترهيب التي تحصل من اليوم الأول صادمة، وهي تسبب صدمة للسجناء، فيكون هناك تحطيم دائم، والسجناء كما ذكرت يعيشون الأمل، ويعيشون على أمل أنهم في لحظة معينة سوف يخرجون؛ لأن هناك معاركًا في الخارج، وربما يسقط النظام في أي لحظة.

معلومات الشهادة

تاريخ المقابلة

2020/02/29

الموضوع الرئیس

معتقلات الأسد

كود الشهادة

SMI/OH/131-45/

رقم المقطع

45

أجرى المقابلة

سهير الأتاسي

مكان المقابلة

اسطنبول

التصنيف

مدني

المجال الزمني

2013

المنطقة الجغرافية

محافظة ريف دمشق-صيدنايا

شخصيات وردت في الشهادة

لايوجد معلومات حالية

كيانات وردت في الشهادة

سجن صيدنايا العسكري

سجن صيدنايا العسكري

فرع المداهمة والاقتحام 215- شعبة المخابرات العسكرية

فرع المداهمة والاقتحام 215- شعبة المخابرات العسكرية

معلومات الشاهد

الموضوعات المرتبطة

الكلمات المفتاحية

الشهادات المرتبطة