واقع النظام والجيش خلال إرهاصات الثورة وبداياتها، ومخاطر التفكير بالانشقاق
صيغة الشهادة:
مدة المقطع: 00:18:58
أنا العقيد عبد الجبار محمد عكيدي من مواليد حلب قرية زيتان في ريف حلب الجنوبي 1965، تطوّعت في الجيش العربي السوري في أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية بتاريخ 12 كانون الأول/ ديسمبر 1983، درست هندسة الميكانيك، ثم خدمت بعد ذلك في وحدات الهندسة في إدارة المهندسين لفترة طويلة من الزمن، حتى العام 2005، ثم انتقلت إلى إدارة الأشغال العسكرية، وتدرّجت في الرتب حتى رتبة عقيد. مع بداية الثورة حيث بدأ الحراك الثوري، ثم انتقل إلى المسلح، وبدأ النظام باستخدام القوة العسكرية، ومع بداية العام 2012 تقريبًا انشقيت عن النظام وانتسبت للجيش السوري الحر (انشقّ العقيد في 6 آذار/ مارس 2012، وأعلن انشقاقه في 19 آذار/ مارس 2012 – المحرر)، وشكّلت "كتيبة عمرو بن العاص" في ريف المعرة الشرقي (بتاريخ 24 نيسان/ أبريل 2012 – المحرر)، ثم انتقلت إلى حلب وشكّلت المجلس العسكري (تم الإعلان عن تشكيل المجلس العسكري في مدينة دارة عزة في ريف حلب الغربي بتاريخ 29 حزيران/ يونيو 2012 – المحرر)، ودخلنا مدينة حلب (في 20 تموز/ يوليو 2012 – المحرر)، وقدت المجلس العسكري حتى نهاية العام 2013.
أنا متزوج ولدي أربعة أولاد ذكور، اثنان منهم كانا معي في المجلس العسكري، وأحدهما أُصيب في معركة تحرير الفوج 46 (بدأت العملية بتاريخ 22 أيلول/ سبتمبر 2012، وسيطر الجيش الحر على مقر قيادة الفوج في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012– المحرر)، وأعيش الآن في تركيا في مدينة غازي عنتاب.
في موضوع الحراك، ومع بدايات ثورات الربيع العربي، بدأ ينتعش الحلم والأمل لدى الشعب السوري الذي يعيش حالة من القهر والكبت والقمع من قِبَل نظام شمولي ديكتاتوري استبدادي طائفي على مدار حوالي أربعة عقود من الزمن، فبدأ ينتعش هذا الأمل في أن يكون هناك ثورة أيضًا في سورية على هذا النظام لإسقاطه وتحويل سورية إلى بلد ديمقراطي، بلد يسوده العدل والمساواة، بلد مواطنة لجميع السوريين، تنتفي فيه كل أشكال الاستبداد والقمع والديكتاتورية، ويتساوى الجميع في الحقوق والواجبات، فينهض البلد إلى مصاف الدول المتقدمة نتيجة إمكانيات أبناء الشعب السوري القوية جدًا، والتي كان يكبتها هذا النظام ويمنعها من التحرر. وبالتالي بدأ هذا الأمل، وبدأنا نراقب عن كثب ما يحصل في تونس، وزاد الأمل وانتعشت الأمنيات بهروب بن علي، وبدأت تكبر أيضًا هذه الآمال مع الحراك الثوري في مصر الذي تلاه سقوط حسني مبارك، وبدأت ليبيا، وبدأ يتحرك بعض النشطاء على "الفيسبوك" ووسائل التواصل الاجتماعي، وبدأت ملامح مرحلة جديدة على ما يبدو تظهر في سورية، ملامح كسر القيود وحاجز الخوف الموجود لدى السوريين نتيجة عقود من القمع والقتل والاعتقال.
بدأ هذا الحراك، ونحن في الجيش (جيش النظام – المحرر) حقيقةً كنا نتابع على شاشات التلفزة [ما يحصل]، فنحن الضباط الذين لدينا الرغبة في التغيير كنا معارضين من داخلنا ونكره هذا النظام، وبدأنا نراقب ونتابع كل الأحداث، وفي الوقت نفسه كنا نُراقَب من قبل الطرف الآخر لأنهم بدأوا يتوجسون [ويشعرون بـ] الخوف من هذا الحراك في سورية، فكانوا يحاولون الهروب [عبر قولهم] "إن سورية لن يحصل فيها شيء، وسورية ليست مؤهلة (...)"، وفي الوقت نفسه كانوا يحاولون أيضًا الضحك على الناس [فيرددون:] "إن الشعب السوري واعي، والشعب السوري وطني ولا يمكن أن يقوم بذلك"، ولكنهم يعرفون في حقيقة الأمر أن هذا لا بدّ أن يحصل، وأن هذا التيار لا بدّ أن يشمل هذه المنطقة، وخاصةً أن المنطقة مهيأة، والناس تحمل في داخلها حقدًا دفينًا وكبيرًا على هذا النظام نتيجة إجرامه في الثمانينات وإجرامه في لبنان وقمع الحريات وكل هذا.
بدأنا نتابع كل الأمور، وبدأ الحراك في درعا، ثم امتدّ إلى حمص فورًا، وإلى مناطق الساحل وبانياس وجبلة واللاذقية ودير الزور وحماة وحلب، وإلى بقية المحافظات بشكل سريع. ومنذ أول لحظة بدأ النظام باستخدام العنف والقوة، ولم يتوانَ لحظةً واحدة، وبدأ يظهر الحقد على وجوه وملامح وتصرفات الضباط من الطائفة العلوية، وبدأوا يتحدثون عن "سحق هذا الحراك بشكل فظيع، وأنه لا يمكن ولا يُسمَح في سورية بمثل هكذا حراك أو تمرد أو شيء [من هذا القبيل]"، فالحرية ممنوعة على السوريين، وهم يعيشون في مزرعة آل الأسد، وبالتالي يعتبرون الشعب السوري عبدًا لهم في هذه المزرعة، [فقط] يعملون وليس لهم حقوق، ويكفي أنهم يفضّلون علينا بالطعام والشراب، و[حتى] الأوكسجين الذي نتنفّسه هو مكرمة من آل الأسد للشعب السوري.
بدأ يتطور الحراك، وبدأت تكثر المظاهرات وتزداد، ويزداد اتساعها ورقعتها على مساحة الجغرافيا السورية بالكامل، في كل الأرياف وفي كل المدن، بينما النظام يزداد شراسة وقتلًا يومًا بعد يوم، ففي كافة مظاهرات يوم الجمعة وبعد صلاة الجمعة يكون هناك عدد كبير من الشهداء، وفي اليوم الثاني يكون التشييع، وأيضًا أثناء التشييع هناك مظاهرات تندد بالنظام وإجرامه، وأيضًا يكون هناك شهداء مرة أخرى. في البداية طبعًا لم يكن الحراك مطالِبًا بإسقاط النظام نتيجة خوف الناس، وكان يكفيها في المظاهرة أن تصيح أو تهتف "الله أكبر"، وتهتف "حرية" فقط، فالشعب يريد الحرية، ولكن النظام كما قال سميح شقير أكثر ما يخشاه كلمة "الحرية"، فهي بالنسبة له أقوى من المدافع ومن الطيران لأنها فعلًا تهزّ أركان هذا النظام المجرم. تطوّر الموضوع من [هتاف] "حرية"، والشعار الأهم: "الله سورية حرية وبس"، فهذا ما كان يريده الشعب، و[هتاف] "الشعب السوري واحد"، وسمى تسميات أيام الجمعة بأسماء صالح العلي وسلطان باشا الأطرش لإظهار سلمية هذه الثورة ووحدتها الوطنية والدعوة إلى الوحدة الوطنية، وأن هذه الثورة هي ثورة كل أطياف الشعب السوري، وليست طيفًا واحدًا من الشعب.
كان هروب زين العابدين بن علي صاعقًا بالنسبة للنظام والأجهزة الأمنية والضباط، لأنهم أيقنوا أن هذا الحراك سيطال سورية، وكانوا يرغبون في أن يكون الحسم والحزم منذ اللحظة الأولى، ففي البدايات كانوا مزعوجين وكانوا يشتمون بشار الأسد فيما بينهم [قائلين] "إنه طبيب، وقلبه طيب، ولا يستخدم العنف"، بينما كانوا يتغنون بحافظ الأسد كيف قمع الثورة في الثمانينات وماذا فعل بحماة عندما تمردت حيث دمرها عن بكرة أبيها، وكانوا يطلقون شعارات "بشار للعيادة، وماهر للقيادة"، وكانوا يطالبون بماهر (ماهر الأسد – المحرر) لأنه يشبه عمه رفعت (رفعت الأسد – المحرر) في الإجرام وفي الحسم والحزم كما يسمونه، فبالتالي تغير التعاطي، وبدأت الأجهزة الأمنية تراقب الجميع، وتراقب أعيننا وليس فقط كلماتنا التي نقولها، بل يراقبون حتى أعيننا ومعالم وجوهنا كيف تتغير سعادةً بذهاب بن علي أو ثورة مصر والحراك الشعبي في مصر، وأيضًا سقوط حسني مبارك. هكذا كان التعاطي قمعيًا أمنيًا [معتبرين أنه] يجب أن تُحسم الأمور منذ البدايات، شيءٌ فظيع، وأنا أذكر تمامًا كيف كان بعض الضباط يؤشرون بأحذيتهم [كنايةً عن أن] هذا الشعب يجب أن يُسحق بالأحذية، وألا يتنفس، وألا يُعطى فرصة حتى يقوم بثورة.
أنا أصلًا أكره هذا النظام جدًا جدًا، منذ الثمانينات وأنا أحقد على هذا النظام، حتى قبل الثمانينات وعندما كنت في الإعدادية (المستوى التعليمي الإعدادي – المحرر) كنت من المغرمين بالسياسة وأتابع الأخبار كثيرًا وأقرأ الكتب السياسية منذ كنت في المرحلة الإعدادية، فكنت حاقدًا على النظام في فترة الثمانينات نتيجة ما شاهدته من قمع، وكنت في مدينة تل رفعت في تلك الأثناء، وكان والدي في قوى الأمن الداخلي، وشاهدت الكثير من الاعتقالات وسحل الناس في الشوارع وقتلهم في فترة الثمانينات. تل رفعت كانت بلدة متدينة، وفيها الكثير من المعتقلين، فكنت حاقدًا على هذا النظام، وعندما تطوعت أصلًا، تطوعت [أخذًا] بنصيحة بعض الأصدقاء الأكبر مني سنًا، وهذه كانت رغبتي على أمل أن نستطيع فعل شيء في يوم من الأيام، أن نجمع بعضنا كضباط وطنيين أحرار نستطيع أن نقوم بشيء لخدمة بلدنا وإزاحة هذا النظام.
بالنسبة لي كانت لحظات سعيدة جدًا عند هروب بن علي، وقد أشعل الأمل في داخلي بأننا سنتحرر من هذا النظام الطائفي المقيت، ونحن أكثر من كان يعاني من النظام الطائفي حيث كنا في الجيش، وكانت نسبتنا قليلة جدًا، فقد كانت نسبة الضباط العلويين في الجيش والأجهزة الأمنية تقريبًا 85%، بينما [كانت نسبة] باقي الطوائف بمن فيهم السنّة لا تتجاوز الـ15%، وبالتالي كنا دائمًا نعاني من الطائفية والتمييز، ليس فقط بين الضباط، فربما ضابط صف من الطائفة العلوية كان لديه نفوذ وقوة أكبر من ضابط ربما برتبة عميد أو لواء من الضباط السنة. هذا الكبت وهذا القهر الذي كنا نعاني منه، ومع هروب بن علي بدأ الأمل يسطع ويتجدد بأننا سنتخلص من هذا النظام.
موضوع الانشقاق حقيقةً لم يكن ليخطر في بال أحد في ظل هذا النظام المجرم، فهذه السابقة غير موجودة من قبل (قبل انطلاق الثورة السورية – المحرر) لأن النظام لا يردعه شيء، وبالتالي أي ضابط سينشق لن يكون هو فقط عرضة للموت، وربما هذا لا يعنيه كثيرًا فهذا خياره، بل عائلته بالكامل وأهله هم أيضًا عرضة للموت، وحتى أقاربه ربما من الدرجة الرابعة سيكونون عرضة للموت والقتل والاعتقال. لذلك هذا الموضوع لم يكن في ذهن الكثيرين، [وفي الوقت نفسه] الجميع كان يتمنى أن يزول هذا النظام من خلال المظاهرات السلمية والحراك السلمي الشعبي دون أن نحتاج إلى التحرك العسكري، فمن المعروف أن أي حراك عسكري ستكون نتيجته دماء كثيرة، ولكن مع بدء القمع العسكري واستخدام النظام للجيش ولكل التشكيلات العسكرية حيث زجّ بكل الفرق العسكرية في المدن والبلدات والقرى، وبدأ باستخدام الدبابات المدفعية (...). ولا أنسى أبدًا حين كنت أسافر كل أسبوع من دمشق إلى حلب، فقد كانت خدمتي في دمشق وبيتي في حلب، لا أنسى عندما كنت أمرّ في مدينة حمص وأسمع صوت قذائف المدفعية والهاون تنهال على الأحياء السكنية فيها، وأنا في الباص أو في سيارتي، كنت أبكي بدموع غزيرة، [وأقول في نفسي:] "لماذا يحصل هذا؟ وكيف جيش يقتل شعبه؟ ماذا فعل أهل حمص مثلًا؟"، طبعًا حصل هذا في كل المدن التي كان فيها حراك ثوري، ولكنني عندما كنت أمرّ في حمص كنت أسمع أصوات المدفعية والهاون وقذائف الدبابات وهي تقصف الأحياء.
من هنا بدأ الموضوع (موضوع الانشقاق – المحرر)، [والسؤال المطروح:] كيف أنا موجود مع هذا النظام ولماذا؟ أنا تطوعت في هذا الجيش من أجل حماية بلدي وشعبي، ومن أجل الدفاع عنه، وليس من أجل قتله، على الرغم من أنني كنت أخدم في إدارة الأشغال العسكرية، والقطعة ليست قطعة محاربة، وإنما هي رحبة تقدم الخدمات لكل قطعة في الجيش السوري، ومع ذلك كان [يتسبّب لي الأمر] حقيقةً بتأنيب ضمير وتقريع ليلًا نهارًا: "لماذا نحن باقون مع هذا النظام؟". ومع انشقاق الملازم أول عبد الرزاق الطلاس والمقدم حسين الهرموش - نسأل الله أن يفرج عنه إن كان حيًا ويتقبّله إن كان شهيدًا - بدأ هذا الموضوع يأخذ حيزًا كبيرًا من التفكير، أي موضوع الانشقاق، ولكنه كان أيضًا بالنسبة لنا في حلب شائكًا ومعقدًا ومخيفًا، فحلب كانت مدينة محكمة السيطرة عليها بشكل كبير من قبل الأجهزة الأمنية والشبيحة، وحتى الحراك السلمي فيها كان ضعيفًا جدًا، ليس لعدم رغبة الناس في الحراك، على العكس تمامًا، فحلب من المدن الحاقدة جدًا على النظام لأنها عانت ما عانته في الثمانينات، ولكن كانت القبضة الأمنية محكمة بشكل كبير جدًا كما قلت من قبل الأجهزة الأمنية وأعداد هائلة وكبيرة من الشبيحة.
وهكذا كان موضوع الانشقاق موضوعًا مميتًا بالنسبة للأهل والعائلة، فأهلي كلهم في حلب، أخواتي وإخوتي وأولادهم، وأهلي موجودون في ريف حلب الجنوبي حيث كان الحراك ضعيفًا ومتأخرًا جدًا عن الحراك في ريف حلب الشمالي والغربي، [وأهالي] القرى الموجودة لا أقول مؤيدون، فلا يوجد أحد مؤيد لنظام بشار الأسد، هذا النظام مجرم، وأتوقع حتى الآن الناس الذين يعيشون معه يكرهونه، ولكن نتيجة الجهل والخوف من الأمن ومن انتهاك الأعراض ودخول الجيش، كان الحراك ضعيفًا. وفي ريف حلب الجنوبي في القرية المجاورة لنا، الزربة [بلدة الزربة] كان هناك مفرزة الأمن العسكري ومفرزة أمن الدولة، وبالتالي أي تفكير بالانشقاق مبكرًا سيعني هلاكًا للعائلة بالكامل، ومع ذلك لم أعد أستطيع التحمل، فكنت أجلس في مكتبي وأغلق النوافذ والستائر، وأبكي بكل ما تعنيه الكلمة من البكاء، وأنا أشاهد على شاشة التلفاز قتل الناس وقتل الأبرياء والأطفال، وعندما شاهدت في حمص كيف يركلون الرجل العجوز بأرجلهم، أي الشبيحة وعناصر الأمن، وعندما شاهدتهم يدفنون الشاب الذي رفض أن يقول: "لا إله إلا بشار"، يدفنونه وهو حي، وعندما شاهدت أطفالًا في اللاذقية يُقتلون في الشوارع، حقيقةً لم أعد أستطيع التحمل. وساعدتني أيضًا على ذلك للأمانة زوجتي، وكانت دائمًا وفي كل أسبوع آتي فيه إلى حلب تقول لي: "تأخرت، تأخرت عن الانشقاق"، رغم أن عدد الضباط المنشقين كان في ذلك الوقت بالعشرات وليسوا أكثر من ذلك، ولم يكن أحد قد انشقّ من حلب، ربما ضابط أو اثنان فقط، وهما من الريف، والريف وضعه أسهل جدًا من المدينة، فالريف ربما منفتح على الحدود، وفيه حراك إلى حد ما.
معلومات الشهادة
تاريخ المقابلة
2021/02/18
الموضوع الرئیس
المؤسسات العسكرية في نظام الأسدسيرة ذاتيةالبدايات الأولى للثورة السوريةكود الشهادة
SMI/OH/58-01/
أجرى المقابلة
يوسف الموسى
مكان المقابلة
اسطنبول
التصنيف
عسكري
المجال الزمني
2011
updatedAt
2024/12/10
المنطقة الجغرافية
محافظة حلب-محافظة حلبمحافظة حلب-مدينة حلبمحافظة حلب-تل رفعتشخصيات وردت في الشهادة
كيانات وردت في الشهادة
الجيش العربي السوري - نظام
الجيش السوري الحر
كتيبة عمرو بن العاص - إدلب
إدارة الأشغال العسكرية
أكاديمية الهندسة العسكرية - النظام